قاموس الجندر ثنائي اللغة
العمل

في اللغة الإنكليزية، يُشتقّ مصطلح “العمل” (work) من كلمة “werg” الهندو أوروبية، ومعناها “الفعل”. وقد تمّ تعريف العمل بأنّه “نشاطٌ بشريٌ هادفٌ ينطوي على مجهودٍ بدني أو ذهني لا يتمّ بهدف المتعة فحسب ويتّسم بقيمةٍ اقتصاديةٍ ورمزية”(1). يُعدّ مثل هذا التعريف الواسع ضروريًا نظرًا إلى أنّ النشاط نفسه يشمل طيفًا واسعًا من المعاني. فقد تمّت صياغة تصوّر للعمل بوصفه سلعةً، وضرورةً لتحقيق الذات، وعلاقةً اجتماعية، ونشاطًا يتمحور حول رعاية الآخرين، وعنصرًا أساسيًا من عناصر الهوية، وشكلًا من أشكال الخدمة(2). وقد كان تنظير الموجة النسوية الثانية بالغ الأهمية في التأكيد على وجود انقسامٍ جندري في العمل يُعزى إلى أشكالٍ عدّةٍ من عمل النساء غير المدفوع الأجر. وفي السياق المعاصر للاقتصادات النيوليبرالية الذي يتّسم بحكم السوق وانحسار الدور التنظيمي الذي تؤديه الدولة، أمست العمالة غير مستقرّة وبات العامل يُعتبر عنصرًا “يمكن التخلّص منه”(3).

 

“العمل” غير مطابقٍ للعمالة، فهو نوعٌ من الأنشطة التي تتجاوز علاقة الأجور. وبعكس العمالة، يمكن أن يكون العمل خاصًا أو عامًا وبأجرٍ أو من دون أجر. وفي المفهوم الماركسي المؤثّر إلى حدٍ كبير، يُعدّ “العمل الحي” شكلًا من أشكال العمل البهيج والجماعي والإبداعي(4). إنّ قدرة “العمل الحي” هذه هي المعتَمَدة في نمط الإنتاج الرأسمالي، حيث يؤدّي تقسيم العمل إلى اغتراب العمّال عن أنفسهم وعن ثمار أعمالهم.

 

لقد حاججت الثقافة النسوية باستمرار منذ سبعينيات القرن الماضي بضرورة توسيع الفئة التي يشملها العمل وبضرورة تعميمه وتسييسه، وصولًا في نهاية المطاف إلى تحويله بشكلٍ جذري(5). واختلفت إلى حدٍ ما المواقف إزاء النوع الاجتماعي والعمل بين النسويات الليبراليات والاشتراكيات والراديكاليات. فبالنسبة إلى الليبراليات وكثيرٍ من الاشتراكيات، تمثّل المطلبان الرئيسان في المساواة مع الرجال في سوق العمل وإنهاء العمل المنزلي غير المأجور. كما قدّمت سوسيولوجيا العمل التي بلورتها هذه المجموعات النسوية مساهماتٍ كبيرةً في العقود الخمسة المنصرمة في فهم بعض الظواهر كتقسيم العمل على أساس النوع الاجتماعي داخل الأسر، وعمل النساء “بمناوبة مزدوجة” (العمل النظامي والعمل المنزلي)، والفصل على أساس النوع الاجتماعي في سوق العمل، والفجوة المنهجية في الأجور بين الرجال والنساء، والعقبات التي تحول دون الترقية في الوظائف، فضلًا عن آلياتٍ أخرى لسياسات سوق العمل والدولة تستبعد طالب العمل على أساس النوع الاجتماعي والعرق والجنسانية(6). بالإضافة إلى ذلك، أظهر بعض هذه الدراسات أنّ عددًا كبيرًا من النساء يعمل في ما يُسمّى بـ“خدمات الرعاية” (كالرعاية المنزلية لكبار السنّ أو المرضى أو الأشخاص ذوي الإعاقة والعمل الاجتماعي وما إلى ذلك)، ويشي تركّز النساء في هذا المجال بالبناء الاجتماعي المتكرّر للوظائف على أسس الهويات والأدوار الجندرية التقليدية. وقد حاجج بعض الباحثين/ الباحثات بأنّ طبيعة هذا العمل ذاتها تؤدي إلى انطماس الحدود بين العمل المأجور وتقديم الرعاية(7)، ما يحيل ربما إلى تخفيض قيمة أعمال الرعاية وإلى تقاضي أجورٍ عنها دون المستوى.

 

ووضعت الموجة النسوية الثانية، المؤلفة من النسويين/ النسويات الماركسيين/ الماركسيات والتي يمكن القول إنّها أكثر راديكاليةً، سلسلةً من المقترحات المثيرة للاهتمام بشأن دور تقسيم العمل على أساس النوع الاجتماعي أو دور النساء كمجموعةٍ ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي. فبدلًا من مجرّد الإشارة إلى ضرورة تقاسم الأعمال المنزلية أو دفع مقابلٍ لمن يقوم بها، حاجج الباحثون/ الباحثات في هذا المجال بأنّ الأعمال المنزلية جزءٌ من إعادة الإنتاج الاجتماعي للنظام الرأسمالي، يسمح بالتالي بإعادة إنتاج القوى العاملة على نحوٍ مستمرٍ وبأقلّ تكلفة ممكنة يتكبّدها الرأسماليون. وحاجج بعضهم أيضًا بأنّ المرأة تعاني “اغترابًا مضاعفًا” في النظام الرأسمالي، وذلك لأنّه يتمّ استغلالها من خلال الترتيبات البطريركية والرأسمالية على حدٍ سواء، في حين ذهب آخرون إلى القول بأنّه قد حلّ محلّ السلطة البطريركية الخاصة ـ “نظامٌ بطريركيٌ عام” يولّد بل ويبرّر أيضًا العمل الأقلّ أجرًا الذي تتركّز فيه النساء العاملات(8)

 

وقد انتقد الأكاديميون/ الأكاديميات ما بعد البنيويين/ البنيويات التحليل النسوي الماركسي بسبب مقاربته الاختزالية المقتصرة على الاقتصاد وعدم إيلائه الهويات الاهتمامَ الكافي. من جهةٍ أخرى، عمل النسويون الماديون/ النسويات الماديات (الذين/ اللواتي يسعون/ يسعين إلى دمج التنظير النسوي الماركسي وما بعد الحداثي وما بعد الاستعماري) على الإبقاء على بعض عناصر هذا التحليل(9). فعلى سبيل المثال، وفقًا للمنظّرة كاثي ويكس(10)، جاء إصرار الباحثات النسويات على أهمية العمل غير المادي في الإنتاج الرأسمالي واستحداث فئات جديدة كـ“العمل العاطفي” أو “العمل الوجداني” ليضفي إسهامات بالغة الأهمية في فهم أنظمة العمل الموجّه نحو الخدمات التي باتت تهيمن على نحوٍ متزايد على بعض الأنحاء في أوروبا وأميركا الشمالية وبعض أرجاء الشرق الأوسط.

 

وفي التفسير الكلاسيكي لدى فريدريك إنغلز، أدّى استحداث الملكية الخاصة إلى تبعية المرأة. وعلى الرغم من أنّ إنغلز حاجج بأنّ الرأسمالية تغتذي من تقسيم العمل على أساس النوع الاجتماعي، إلّا أنّه أقرّ بأنّ النظام الرأسمالي يمنح المرأة أيضًا درجةً من الاستقلال عن الآباء في الأسرة، وذلك عبر تمكينها من الدخول إلى عالم العمل المأجور. وعلى الرغم من ذلك، شدّد إنغلز على أنّه لا يمكن تحقيق تحرّر المرأة، بسبب المشكلة التي يطرحها العمل المنزلي غير المأجور، إلّا عند إضفاء الطابع الاجتماعي على الرعاية في إطار نظام اشتراكي(11). بناءً على ذلك، اعتبر الفيلسوف الألماني أنّ مصالح نساء الطبقة العاملة تتماشى تمامًا والأهداف والمطالب الأوسع التي تنادي بها حركة الطبقة العاملة بشكلٍ عام(12). أمّا النشاط في سبيل عمل المرأة في القرنين التاسع عشر والعشرين والذي تجلّى بأكبر وضوحٍ في إضراب العاملات في صناعة الملابس في الثامن من آذار / مارس 1857 في نيويورك للمطالبة بظروف عملٍ أفضل(13)، فينتمي على ما يبدو إلى هذه الرؤية القائلة بتوافقٍ سهلٍ لـ “قضية المرأة” ضمن الصراع الطبقي. من جهةٍ أخرى وبصورةٍ عامة، مثّلت مطالب المرأة في الحركة العمالية المنادية بترتيبات عملٍ أكثر عدلًا، سواء في القطاع الخاص أم العام، مصادرَ للتوتّر وأدّت إلى توقّع النسويات الوصول إلى حلٍ وسط(14).

 

يشير النسويون/ النسويات إلى أنّ تطوّر نمط الإنتاج الرأسمالي كان قائمًا على التقسيم بين الخاص والعام، أي بعبارة أخرى على ابتداع عالمين متمايزين غاية التمايز ظاهريًا: عالم العمل العام المأجور وعالم العمل الخاص غير المأجور. وإلى جانب هذا التقسيم، استند النظام الرأسمالي وما يُسمّى بالثورة الصناعية إلى تقسيمٍ دوليٍّ للعمل، حيث استفادت النواة الصناعية من ممارسات العمل القسرية أو المفرطة في الاستغلال في المناطق البعيدة أو الخاضعة للاستعمار والتي وفّرت السلع الزراعية والمواد الخام. ففي حالة الدول الأفريقية الخاضعة للاستعمار، لم تكتفِ أوروبا بعدم تطوير القارة بالحدّ المناسب عمدًا فحسب، بل إنّ “السيرورة الاستعمارية، في تقدّمها، انحدرت بالمرأة في الشعوب المُستَعمَرة تدريجيًا من منزلةٍ رفيعةٍ سابقة تمتّعت فيها بسلطةٍ واستقلالٍ نسبيين إلى منزلةٍ ذات ‘طبيعة بهيمية’ ومُذِلّة”(15). وقد حرمت الحسابات الاقتصادية في البداية الإماءَ من مكانة الأمهات والزوجات، لا بل دفعت في ما بعد أيضًا المرأة في الأقاليم الخاضعة للاستعمار خارج دائرة العمل المأجور إلى حالةٍ من التبعية الرسمية (ما يعني عمليًا الزجّ بالمرأة في دائرة العمل غير المأجور وغير المرئي)، وذلك عبر عمليةٍ اشتهرت باسم “فرض دور ربة المنزل”(16).

 

منذ ستينيات القرن التاسع عشر، دخلت المرأة في الدول الصناعية عالم المهن التي يسيطر عليها الذكور بوتيرةٍ سريعة، فتحدّت التصوّرات البطريركية المسبقة لكنّها اضطرت في الوقت عينه إلى مواجهة عددٍ من العقبات، مثل القبول بالحياة الأسرية أو التوفيق بينها وبين العمل، وعدم القضاء على “العزل المهني”(17)والعمل بمناوبةٍ مزدوجة. وعلاوةً على ذلك، فإنّ غالبية الفقراء العاملين هم من النساء اللواتي يشغلن أقلّ الوظائف استقرارًا. وفي السياق الاقتصادي النيوليبرالي، تعتمد اقتصادات الخدمات على العمالة المرنة وغير الخاضعة للضوابط التنظيمية. فبات يُعهد بالوظائف التصنيعية على نحوٍ متزايد إلى ما يُسمّى بالعالم النامي، ما يقلّص التكاليف على حساب حقوق العمّال. ويوظّف قطاع صناعة الملابس (الذي يستغلّ العمال) النساء في الغالب، مشكّلًا مثالًا على العواقب السلبية للغاية التي يرتّبها هذا النموذج الإنتاجي على العمّال(18)) وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النموذج انتشر في دولٍ عدة في الشرق الأوسط، حيث لا يتمّ توظيف أبناء البلد الفقراء فحسب، بل يتمّ استيراد العمالة الأجنبية أيضًا. بالإضافة إلى ذلك، أدّت النماذج الرأسمالية إلى تطوير سلاسل عالمية من العمل الرعائي قائمةٍ بدرجة عالية على أساس النوع الاجتماعي. فباتت نساء الطبقة الوسطى وحاملات الشهادات العلمية يوظّفن على نحوٍ متزايد النساء المهاجرات للقيام بالأعمال الرعائية في المنزل والأشغال المنزلية. وتتبدّى هذه الظاهرة لا في الاقتصادات الأوروبية والأميركية والشمالية فحسب(19)، بل أيضًا في لبنان ودول الخليج واقتصاداتٍ عديدة في كافة أنحاء العالم العربي. ويمكن تفسير إعطاء قيمة نقدية للعمل الرعائي على أنّه حلٌ مؤسف لمسألة “المناوبة المزدوجة” في الدول الأغنى أو الأسر المقتدرة من خلال استخدام النساء الأكثر فقرًا بوظيفة غير مستقرة.

 

لقد تراوحت المقترحات السياسية النسوية بشأن مسألة العمل المأجور وتقسيم العمل على أساس النوع الاجتماعي بين المطالب الكلاسيكية بوضع حدٍ للتفرقة في الأجور والتحرش الجنسي وتلك الاستفزازية المنادية بتقديم أجرٍ عن الأعمال المنزلية(20). أمّا بالنسبة إلى نسوياتٍ أخريات، أدّى البحث في العمل الرعائي إلى ظهور نظريةٍ أخلاقيةٍ نسوية سُمّيت بـ“أخلاقيات الرعاية”، وهي نظريةٌ معنيةٌ بما يجعل من الأعمال أعمالًا صحيحةً أو خاطئةً أخلاقيًا وتركّز على أهمية الاستجابة وشروط الضعف وعدم المساواة(21).

 

حاليًا في لبنان، تعمل غالبية العاملات في القطاع غير النظامي والزراعة والعمل المنزلي والرعاية الاجتماعية والمنظّمات غير الحكومية – وهذه من أشكال العمل التي غالبًا ما تكون غير مأجورة أو غير منظّمة بقانون العمل. كذلك، تمثّل النساء 23 في المئة فحسب من القوى العاملة المأجورة ويعانين من التمييز ضدّهنّ في ما يتعلّق بفرص التوظيف والمساواة في الأجور والمزايا والإجازات المرَضية وإجازات الأمومة. علاوةً على ذلك، غالبًا ما تعمل النساء العاملات بـ“مناوباتٍ مزدوجة”، إذ يتولّين أيضًا العمل المنزلي. وقد أثبتت دراسةٌ صدرت مؤخرًا(22) أنّ المرأة في مختلف المجتمعات اللبنانية تتولّى معظم الأعمال المنزلية. على الرغم من ذلك، أظهرت الدراسة وجود ارتباطٍ بين انخفاض الأعمال المنزلية التي يتمّ تولّيها وازدياد عدد النساء اللواتي يشغلن وظيفةً مدفوعة الأجر. لكن لا يتّصل الحصول على عملٍ مأجورٍ بالضرورة بتحرّر المرأة، بل بالأحرى بوضع الأسرة الاقتصادي والحاجة إلى العمل “خارج المنزل” (برّات البيت). وقد تركت المرأة التي باتت جزءًا من القوى العاملة فجوةً في واجبات الرعاية، حيث يُتوقّع منها تأدية بعض الواجبات مثل رعاية الأطفال والأقارب المسنّين والمريضين. وأدّى النقص في خدمات الدولة كدور الحضانة أو دور المسنّين إلى زيادة تعبئة المساعدة الخارجية التي تمثّلت بعاملات المنازل المهاجرات (السوريات منهنّ وكذلك النساء من سريلانكا وإثيوبيا وبنغلاديش). ولا يزال التمييز الهائل بحقّ هؤلاء النساء (يبلغ عددهنّ أكثر من مئتي ألف عاملة) قائمًا اجتماعيًا وقانونيًا، وباتت العاملات ينظّمن أنفسهنّ ويطالبن بالمساواة في الحقوق من خلال الانخراط في النقابات(23).