يُعرّف “العنف”، بالدرجة الأولى، بوصفه استخدام القوة ضدّ شخصٍ أو كيانٍ آخر. ويمكن أن يكون العنف جسديًا أو جنسيًا أو نفسيًا وأن يتّخذ أيضًا شكل الحرمان. قد يقع هذا العنف بين الأفراد (الأسرة والمجتمع) وقد يتّسم بطابعٍ جماعي (كالعنف الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي) أو قد يكون ذاتيًا. وقد يؤدّي “العنف الاقتصادي” إلى استغلال الأشخاص اقتصاديًا في سياقاتٍ مختلفة كمكان العمل أو الأسرة. ويُعنى بـ“العنف الهيكلي” العنف الذي يقع داخل البنى والمؤسّسات الاجتماعية التي تدعمه، ويُعدّ التعصّب والتحيّز الجنساني والتفرقة الطبقية من أشكال العنف الهيكلي. ويقترن الأخير بأشكالٍ أخرى من العنف بما فيها العنف على أساس النوع الاجتماعي أو الحرب أو العنف بين أفراد الأسرة.
بالإضافة إلى ذلك، دعم الباحثون الأوروبيون الذين ركنوا إلى الكتابة بعد الحرب العالمية الثانية فرضية انخفاض مستوى العنف في العصر الحديث، وذلك نتيجة عملية ‘التحضّر’ التي أدّت إلى كبت الوحشية (إلياس)(1) والانتقال من وحشية الدولة إلى الانضباط (فوكو)(2)، وازدياد نسبة ممارسة العنف من خلال الأشكال الثقافية عوضًا عن الإكراه (“العنف الرمزي” الذي تكلّم عنه بورديو(3)). ولكن في فترة ما بعد الحرب، عارض فرانز فانون هذا التوجّه وصوّر في كتابه “معذبو الأرض”(4) العنفَ على أنّه علامة للحوكمة الاستعمارية المستمرّة والتعسّفية. كما أدّى الوضوح المتزايد لأطر العمل النسوية وما بعد الاستعمارية في العقود المنصرمة إلى إعادة تسليط الضوء على وجود العنف الجسدي اليومي في حياة معظم الأشخاص وعلى العلاقة التي تربط بين العنف بين الأفراد والعنف بين الدول. علاوةً على ذلك، ازداد الوعي إزاء العنف الذي غالباً ما يستهدف المجموعات الاجتماعية المحرومة أو يؤثّر فيها. فقد اعتبر بعضهم سابقًا أنّ الأفراد المحرومين هم بمعظمهم أيضًا المرتكبون الرئيسون لأعمال العنف بين الأفراد، وذلك نتيجة مشاعر الإحباط لديهم بفعل الحرمان الاقتصادي(5).
وفي بعض الأطر الفكرية كالماركسية والنسوية الاشتراكية ذات الصلة، يُعدّ العنف سمةً في ممارسة السلطة وأمرًا ضروريًا للتشبّث بالسلطة (راجع تعريف السلطة). أمّا بالنسبة إلى المفكّرين الآخرين، ومن بينهم حنة آرندت، فتتميز السلطة (بوصفها أمرًا ينبثق عن العمل الجماعي فحسب وفقًا لتصوّرها) تميزًا كاملًا عن استخدام القوة وممارسة السلطة. لكن أشار آخرون إلى أنّ العنف الجسدي والإكراه ليسا ضروريين دائمًا للمحافظة على ترتيبات القوّة القائمة وأنّه يمكن ضبط الأشخاص كي ينظموا أنفسهم(6). وبالفعل، يمكن القول بأنّه تمّ رسم خطوط الصدع الأساسية بين الماركسية والنسوية ما بعد البنيوية بفعل اختلاف سبل فهم العلاقة بين السلطة والعنف.
في العقود الثلاثة المنصرمة، يمكن القول إنّ إحدى أهمّ المداخلات في النقاشات العامة حول العنف الذي يؤدّي إلى نتائج ملحوظة في النشاطات وصنع السياسات قد تمثّلت في الإشكالية التي طرحتها النسويتان الاشتراكية والليبرالية بصدد العنف ضدّ المرأة ثمّ بصدد العنف على أساس النوع الاجتماعي بصورةٍ عامة. فقد أكّدتا أنّ العنف ضدّ المرأة هو نتيجة الهيمنة البطريركية أو عدم رغبة الدول الليبرالية في التدخل في “الفضاء الخاص”. بالإضافة إلى ذلك، وُجهت انتقاداتٌ إلى خطابات حقوق الإنسان الأوروبية والأميركية المعولمة حول العنف ضدّ المرأة، وكان النسويون / النسويات أنفسهم أهمّ من وجّهوا تلك الانتقادات بقولهم إنّ هذه الخطابات قد تجاهلت الديناميات المحلية وناصرت تحكّم الدولة في المجتمع وعزّزت المهننة وانتشار المنظمات غير الحكومية حول العالم(7) (راجع تعريف الأنجزة). ولكن من جهة أخرى كما في حالة لبنان، تطوّرت مقاربات معالجة العنف على أساس النوع الاجتماعي، بما في ذلك طرح إشكالية “العنف ضد المرأة” المسيطر تاريخيًا، ما يشير إلى شكلٍ أكثر تعقيدًا من الانتقال الثقافي والسياسي في ما يُسمى بالعالم النامي.
اعتُمد مصطلح “العنف ضدّ المرأة” إثر مؤتمراتٍ دوليةٍ عديدةٍ ضغط من خلالها الناشطون والناشطات والمنظمات غير الحكومية للاعتراف دوليًا بالعنف ضدّ المرأة بوصفه قضيةً محوريةً في الكفاح من أجل حقوق المرأة والمساواة الجندرية. نتيجةً لذلك، ينصّ إعلان الأمم المتحدة للقضاء على العنف الصادر في العام 1993 على أنّ “العنف ضدّ المرأة هو مظهرٌ لعلاقاتٍ غير متكافئة بين الرجل والمرأة عبر التاريخ، أدّت إلى هيمنة الرجل على المرأة وممارسته التفرقة ضدها والحؤول دون نهوضها الكامل. كما ينصّ على أنّ العنف ضدّ المرأة هو من الآليات الاجتماعية الحاسمة التي تفرض على المرأة وضعية التبعية للرجل”(8). ونتيجةً لذلك وفي هذا الإطار يمكن اعتبار العنف ضدّ المرأة شكلًا من أشكال التمييز ضدّ المرأة.
أمّا العنف على أساس النوع الاجتماعي، فيشير إلى أيّ شكل من أشكال العنف المبني على التباينات الجندرية. بالنسبة إلى المرأة، قد يتخذ العنف على أساس النوع الاجتماعي شكل تمييزٍ ضدّها في الحصول على الخدمات أو الاستغلال الجنسي (الإتجار بالمرأة) أو التحرش الجنسي أو العنف الأسري أو السبي. كما يمكن تحليل العنف على أساس النوع الاجتماعي في سياقٍ اجتماعيٍ أوسع حيث تتعزّز امتيازات الرجل وسلطته على المرأة من خلال العنف. بذلك تواجه المرأة خطرًا أكبر أثناء النزاعات إذ إنّها أكثر عرضةً للعنف الجنسي (بما فيه الاغتصاب) والعنف الأسري والزواج المبكر أو لما يُدعى “بالجنس من أجل البقاء” ألا وهو مقايضة الجنس بالطعام أو المساعدة كما حصل مؤخرًا في أعقاب أزمة اللاجئين السوريين في لبنان(9). بالإضافة إلى ذلك وأثناء النزاعات، يزداد العنف على أساس النوع الاجتماعي ضدّ الرجل، إلّا أنّ الأفكار حول الذكورة وقوالب جندرية نمطية أخرى غالبًا ما تشكل عائقًا لدى الرجال يمنعهم من الإفصاح عن تعرّضهم لعنفٍ على أساس النوع الاجتماعي(10).
.
يرى بعضهم أنّ كلًّا من أطر عمل العنف ضدّ المرأة وطرق الفهم السائدة لـ“عدم التفرقة” يمكن أن يعيد التأكيد على الثنائيات الجندرية ويؤدي إلى استثناء الأشخاص الذين لا يندرجون تحت أيٍّ من خانات الثنائيات الجندرية(11). وقد كان النقاش المستمر، بقيادة منظمة ‘كفى’ غير الحكومية، حول قانون حماية المرأة من العنف الأسري والذي تمّ إقراره في لبنان في العام 2014 كفيلًا بتسليط الضوء على هذا الجدال.
فبتعيين المرأة بوصفها وحدها تقع ضحية هذا العنف، لا يغطي القانون الرجال المثليين والمتحولات جنسيًا، وهم من ضحايا العنف الأسري (بيد أنّ حركة الـLGBT اللبنانية دعمت الحملة بقوة، إذ رأت أنّها تضمن بعض الحماية للنساء الكوير والمثليات)(12). في هذا السياق، يواجه الناشطون والناشطات اللبنانيون الصراع المستمر لزيادة الوعي حول التباينات بين مفاهيم العنف ضد المرأة والعنف على أساس النوع الاجتماعي.
يحاول الناشطون والناشطات اللبنانيون الفصل بين العنف على أساس النوع الاجتماعي والعنف على أساس الجنس. علاوةً على ذلك، يعمل الناشطون والناشطات والمنظمات غير الحكومية على زيادة شعبية مصطلحاتٍ مثل ناجي وناجية عوضًا عن ضحية، ويشدّدون على حقوق الناجين من العنف، ولاسيما في النقاشات والخطابات القانونية. يهدف ذلك إلى تفادي إعادة استخدام الخطابات حول المرأة وكأنّها ضحية مجتمعية ونسب العنف إلى الرجال المعياريين فحسب، وهي معانٍ موجودةٌ ضمنيًا في إطار العنف ضدّ المرأة. بالإضافة إلى ذلك يعمل الناشطون والناشطات على نقل لغة العنف من “العنف المنزلي” إلى “العنف الأسري”. فالمصطلح الأخير يسمح بدمج الحالات التي قد تحدث خارج بيت الأسرة وهذا تدخلٌ مهم نظرًا لبنية القرابة في لبنان والارتكاب المتكرر للعنف على أساس النوع الاجتماعي الذي يمارسه أعضاء العائلة الموسّعة.
أمّا الجانب السلبي لتحديد مفهوم الأسرة الذي يحيل إلى شبكات القرابة، فهو استثناء الأشكال العائلية كالمرتبطين غير المتزوجين أو عائلات الكوير. وتبقى هناك مسألة إضافية تتمحور حول تعريف الأسرة وهي مدمجة في القانون الجديد، ألا وهي عدم تغطية عمال وعاملات المنازل (المهاجرين والمهاجرات). فعلى الرغم من أنّهم يعيشون ضمن أسرة مرتكب أو مرتكبة العنف إلّا أنّ هذا القانون لا يحمي عمال وعاملات المنازل. ونظرًا إلى كونهم موظفين، فيجب تنظيم حمايتهم ضمن مجموعةٍ مختلفةٍ من القوانين.
تساهم دينامياتٌ قانونيةٌ واجتماعيةٌ أخرى عديدة في لبنان في ظاهرة العنف على أساس النوع الاجتماعي والصعوبات المعقدة في مواجهته. فلأنّ قانون الأحوال الشخصية (الذي ينظّم الزواج والطلاق والوصاية على الأطفال والوراثة) يكلّف المؤسّسات الدينية بإدارة العلاقات العائلية(13)، نادرًا ما يتمّ الإبلاغ عن العنف الأسري. وقد يكون ذلك نتيجة إدراك أنّ هذا القانون لا يقف إلى جانب المُساء إليه أو إليها بل يفضّل اتّحاد الأسرة. ويرى بعضهم أنّ عنف الحرب الأهلية قد أدّى إلى تطبيع العنف الأسري، بل ساهم في بعض الأحيان في ازدياده. علاوةً على ذلك، أدّى الإدراك الثقافي الصارم لمنزل الأسرة بوصفه فضاءً خاليًا من العنف إلى امتناع ممثلي وممثلات المنظمات غير الحكومية عن مواجهة العنف الأسري بوصفه مشكلةً بنيوية(14). ويحصل ذلك بصرف النظر عن واقع أنّ الأسر هي الفضاء الذي يُرتكب فيه عنفٌ شديد، أكان اقتصاديًا أم جسديًا أم جنسيًا.