قاموس الجندر ثنائي اللغة
الجنسانية

يمكن اعتبار الجنسانية اليوم مصطلحًا جامعًا وواسعًا يشمل الهويات والأفعال الجنسية، والمشاعر، والرغبات، والتعبيرات والأداءات الجسدية. لا يزال البعض يفهم الجنسانية على أنّها تعبيرٌ فطريٌ وطبيعي عن الرغبة، وهذه حجةٌ تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا، حين بدأ علماء الجنس باكتشاف الأساس البدني والبيولوجي لممارسة الجنس(1). وعَمِل علمُ الجنس الأوروبي والأميركي الشمالي مع مجموعة من الافتراضات، ومن جملتها أنّ الجنسانية الطبيعية غَيرية، وأنّ الغرض من الرغبة والدافع الجنسيين هو الإنجاب. وهذا الرأي العلمي المحدّد هو ما أدّى إلى وسم بعض الجنسانيات والسلوكيات والأفعال (أي المثلية منها) بغير الطبيعية أو المختلفة ببساطة. وفي الفترة عينها، عرض علماء جنسٍ كثيرون، من جملتهم الألماني ماغنوس هيرشفيلد والبريطاني هافلوك إليس، رأيًا مغايرًا وحاججوا بأنّ المثلية الجنسية طبيعية وينبغي عدم تجريمها(2).

 

كما ساهم علماء النفس إلى حدٍ كبير في تشكيل فهم الجنسانية، وأبرزهم النمساويان كرافت-إبينغ وسيغموند فرويد اللذين استكشفا الجنسانية بوصفها مسألةً نفسيةً مركزية تحدّد نموّ المرء الشخصي. واعتقد فرويد على وجه الخصوص بأنّ “الجنس هو في صميم الذات”، ونظّر بالتالي حقل التحليل النفسي، حيث اعتبر أنّ الناس يمرّون بمراحل عدةٍ من النموّ الجنسي النفسي(3). يقول الأكاديمي ستيفن سايدمان، أنّ فرويد، على الرغم من أنّه استند في عمله إلى علم الجنس السابق له، لم ينظر إلى الجنس بوصفه إنجابيًا فحسب، بل بوصفه أيضًا دافعًا ممتعًا يمكن إمّا التعبير عنه أو قمعه، ما يشكّل بدوره شكل النموّ النفسي لدى الفرد(4). تُرجمت أعمال فرويد إلى العربية في خمسينيات القرن العشرين، فبرز بالتالي مصطلح “جنسية” الذي يحمل معنًى مزدوجًا مؤلّفًا من جنسانية/ جنسي وجنسية (أي حمل المرء لجنسية بلدٍ معين)، فضلًا عن كلمة “مثلية” (التي تدلّ على التوجّه الجنسي المثلي)(5).

 

تندرج هاتان النظرتان – المنبثقتان عن علم الجنس وعلم النفس – في خانة فهم الجنسانية بوصفها دافعًا بيولوجيًا فطريًا. وتعتَبر نظرةٌ ثانية الجنسانيةَ مجموعةً من المشاعر والسلوكيات والأفعال المبنية اجتماعيًا، تتشكّل بفعل شروط الفرد الاجتماعية والاقتصادية (الطبقة) والوسم المتصل بالعرق والهوية الجندرية. ولعلّ أكثر العلماء تأثيرًا في سلسلة التفكير التفكيكية هو ميشيل فوكو الذي كتب في العام 1976 تاريخًا فلسفيًا عن الجنسانية الأوروبية ونظّر في مسائل قوة الأجساد وانضباطها في المجتمع(6). لقد أسبغ بعدًا تاريخيًا على كيفية وصول أوروبا الحديثة إلى فهم الجنسانية باعتبارها شأنًا “جنسيًا” بحدّ ذاته، وكيف أصبحت مركزيةً في ضبط المجتمع والدولة للمواطنين(7).

 

في هذا السياق، من المهمّ أن نذكر أنّ تكريس الجنسانية وفصلها باعتبارها مجالًا خاصًا في الدراسات قائمٌ بالتالي على التطوّرات الاقتصادية والاجتماعية التاريخية في السياقين الأوروبي والأميركي الشمالي. وقد انتُقِد فوكو لعدم درسه بشكلٍ صحيح الروابط المتداخلة بين بروز “الجنسانية” كحقلٍ بحدّ ذاته

من جهة والمساعي الإمبريالية والاستعمارية الأوروبية(8).

 

أمّا اليوم، فقد باتت الجنسانية والمواقف منها مجالًا رئيسًا يتبلّر من خلاله فارقٌ حضاري بين “تقدمية” أوروبا وأميركا الشمالية و“رجعية” الشرق الأوسط(9) (انظر تعريف المثليين والمثليات وثنائيي وثنائيات الميل الجنسي والمتحوّلين والمتحوّلات جنسيًا).

 

تشمل دراسات الجنسانية في سياق الشرق الأوسط بالدرجة الأولى الجهود المبذولة لإسباغ بعدٍ تاريخي على الجنس والرغبة، وقد تأثّر النقاش الأكاديمي بانقسامٍ مماثلٍ بين النظريتين الجوهرانية والبنائية. ويضمّ التنظير الجوهراني كتّابًا أمثال ستيفن موراي وويل روسكو اللذين يعتبران الرغبة والأفعال المثلية عابرةً للتاريخ(10)، في حين استكشف كتّابٌ آخرون مثل خالد الرويهب الرغبة المثلية الذكرية والأفعال الجنسية في الفترة ما بين 1500 و1800 في العالم العربي الإسلامي العثماني. وقد حاجج الرويهب بأنّ الرغبة المثلية الذكرية مُنَظّمةٌ بطريقة مختلفة للغاية عن كيفية فهمنا لها اليوم، فالرغبة لم تكن تعمل كأساسٍ للهوية(11). بدلًا من ذلك، كانت الرغبة المثلية مُنظّمةً حول ثنائيات بين الجنس من أجل الحبّ والجنس من أجل إشباع الشهوة، والأدوار الجنسية الفاعلة وتلك الاستقبالية، والأفعال الجنسية المسموح بها أو تلك التي يحظرها الدين(12). بالتالي، على الرغم من أنّ شخصياتٍ كـ “اللوطي” أو “المأبون” كانت موجودةً في تلك الحقبة، إلّا أنّها لم تشِر إلى الهويات التي تستند إلى “المثلية الجنسية”، بل بالأحرى إلى الأدوار الجنسية.

 

في العام 2007، قدّم جوزيف مسعد تاريخًا مُسهَبًا عن الجنسانية العربية درس فيه آثار الاستعمار على تفكير المثقّف العربي، وتتبّع العملية التي تبنّى من خلالها المثقّفون العرب المفاهيم الاستشراقية الأوروبية(13). والمهمّ لدى مسعد هو انكبابه في عمله على كتابات المؤرخين والمثقفين العرب بشأن موضوعَي الجنس والجنسانية، مشيّدًا بذلك الأساس اللازم لمعرفة كيف تضمّنت النهضة العربية إعادة كتابةٍ للأفعال والمواقف والشخصيات الجنسية الماضية. وفي العام نفسه، نشرت سمر حبيب دراسةً عن رغبة النساء المثلية وسرديّات الجنسانية في الشعر والأدب العربيين من حقباتٍ تاريخيةٍ مختلفة(14). وحاججت حبيب بضرورة أخذ النظرية الجوهرانية الأكاديمية على محمل الجدّ ودراسة “التماثل” عوض دراسة “الاختلاف” فحسب في تاريخ (المثلية) الجنسية. أخيرًا، يُنسب العمل المنشور الأخير حول الجنسانية “الكوير” إلى تدخلٍ أنثروبولوجي قدّمه سفيان مرابط الذي نظّر في الرغبات المثلية لدى الرجال الكوير في بيروت(15).

 

ولا تزال الدراسات حول الجنسانية المثلية والرغبة المثلية إلى ازدياد(16)، بما فيها أعمال طالت إيران والمغرب العربي، فضلًا عن اهتمامٍ خاصٍّ حظيت به النقاشات بشأن الحقوق الجنسية. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال معظم الدراسات محصورًا في المجالات الأدبية والتاريخية، ولا تواكبها التدخلات الأنثروبولوجية إلّا بالحدّ الأدنى. في لبنان، اعتبرت التجمّعات اليسارية في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين أنّ بروز الجنسانية قضيةٌ سياسية، ما أدّى إلى نقاشٍ محتدمٍ داخل هذه الأوساط. والواقع أنّ هذه التعبئات اليسارية أدّت إلى تأسيس(17) جمعية ‘حلم’ في مرحلةٍ لاحقة، وهي منظّمةٌ تُعنى بحماية حقوق المثليين والمثليات وثنائيي وثنائيات الميل الجنسي والمتحوّلين والمتحوّلات جنسيًا(18).