كثيرًا ما تذكر معظم الحركات الاجتماعية التقدمية “العدالة الاجتماعية” بوصفها هدفًا، غير أنّ تعريفها الملموس يختلف تبعًا لخصوصية السياق. بصورة عامة، يمكن فهم العدالة الاجتماعية على أنّها “التزامٌ بالرفاه يرتكز على احترام كرامة الأشخاص والصالح العام. (...) [إنّها] تتضمّن التزامًا على نطاقٍ واسع بتخفيف حدة الفقر، وتحسين نوعية الحياة والعمل والرعاية الصحية، والحدّ من العنف”. وقد أدّى التركيز على الرفاه أيضًا إلى استخدام مصطلح “العدالة الاقتصادية” بدلًا منه، في حين مهّد التركيز على الحدّ من العنف الطريقَ أمام إدراج مسألة المساواة الجندرية في المطالب المنادية بالعدالة الاجتماعية.
تاريخيًا، ظهرت المطالب السياسية المصنفة بوصفها مطالب بـ”العدالة الاجتماعية” في الفترة الحديثة كردّ فعلٍ على تجاوزات التحوّل الصناعي، وبخاصةٍ في المناطق الحضرية في جميع أنحاء أوروبا. في القرن التاسع عشر، أصبحت “العدالة الاجتماعية” مَجازًا لغويًا في الخطاب العمالي الاشتراكي، ولا يزال ارتباطها بالسياسة الاشتراكية والديمقراطية الاجتماعية هو الأوثق. كثيرًا ما يدور النقاش حول هذا المصطلح مع الإشارة إلى مجموعةٍ من الحقوق الاجتماعية التي أُدرجَت في العهدين الدوليين اللذين صدرا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الباردة. على وجه التحديد، يتضمّن الإعلانُ العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العام 1948 مواد عدّة تتناول حقوق الرفاه، ومنها مثلًا: الحق في الضمان الاجتماعي (المادة 22)، والحقّ في الأجر المتساوي للعمل المتساوي، والحق في الانضمام إلى النقابات (المادة 23)، والحقّ في الراحة والترفيه والإجازات المدفوعة الأجر (المادة 24)، والحقّ في التمتّع بمستوى معيشي لائق والحماية الخاصة للأمومة والطفولة (المادة 25)، والتعليم الابتدائي المجاني والإلزامي (المادة 26). في واقع الأمر وفي الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرةً، كان الهدف الرئيس من مؤسسات الأمم المتحدة هو التنمية الاجتماعية، وكانت هيئات الأمم المتحدة التي تتناول على وجه التحديد حقوق الإنسان الفردية تتّسم بوضعٍ أكثر هامشية ممّا هي عليه اليوم.
ومن المهمّ أن نتذكّر أنّ الحكومات المتصارعة إبّان الحرب الباردة في ستينيات القرن العشرين أقرّت الفصل بين حقوق الإنسان الفردية من جهة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. وفي ذلك العقد، بات يُنظر إلى “الحقوق الاجتماعية” والحق في التنمية الاجتماعية بوصفها المنبر السياسي للاتحاد السوفييتي ودول “العالم الثالث” المنحازة إليه ودول “عدم الانحياز” العربية كسوريا ومصر. أمّا ممثّلو الديمقراطيات الليبرالية، فدافعوا عن ضرورة ضمان الحقوق الفردية والتحرّر من التدخّل الحكومي. علاوةً على ذلك، استخدم بعض الدول هذا المصطلح كوسيلةٍ لمعالجة أوجه عدم المساواة بين الدول وإبراز الحاجة إلى إعادة توزيع الثروة عالميًا. وفي حين تأخذ حقوق الإنسان عادةً من الفرد مقياسًا لها، تهدف الحقوق الاجتماعية إلى إعادة تنظيم أوجه عدم المساواة على مستوى المجتمعات، ما يُشكّل فارقًا جوهريًا دفع بالمؤسسات الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة للنظر إلى مفهوم الحقوق الاجتماعية بعين الشك. ومنذ تسعينيات القرن العشرين، حلّ الاهتمام بقضية التنمية داخل الأمم المتحدة وخارجها (انظر تعريف الأنْجَزة) محلّ الانشغال بالعدالة الاجتماعية، مع تخصيص مساعداتٍ نقدية كبيرة لتحقيق التنمية الاقتصادية المواتية للسوق (بدلًا من الحديث عن إعادة التوزيع)، واعتماد أهدافِ رفاه بالحدّ الأدنى (كاجتثاث الفقر المدقع والجوع) باتت اليوم تتصدّر جدول الأعمال الاجتماعي الدولي.
وقد وضعت المنظّرة السياسية النسوية نانسي فريزر تصوّرًا عن “العدالة الاجتماعية” يمنح “الاعتراف الاجتماعي” و“إعادة التوزيع الاجتماعي” أهميةً متساوية. تحاجج فريزر بأنّه يجب وضع المطالب في موضوع سياسات الهوية على قدم المساواة مع المطالب بإعادة التوزيع. وكان من شأن هذا الكلام أن أدّى إلى التنظير في “تصوّرٍ جامعٍ للعدالة، قادرٍ على استيعاب المطالب التي يمكن الدفاع عنها بتحقيق المساواة وبالاعتراف بوجود فارقٍ على حدٍ سواء”. وترى فريزر أنّ سوء الاعتراف – الذي يسبّبه الإسناد المجتمعي لمنزلةٍ أدنى إلى مجموعاتٍ معينة من الناس بسبب التحيّز الجنساني أو العنصرية و/أو المعيارية على أساس الغيرية الجنسية – لا يقلّ أهميةً عن سوء التوزيع (أو التوزيع غير المتساوي). بعبارةٍ أخرى، لا يمكن أن يحقق البشر ذواتهم من دون الدعوة في الوقت عينه إلى إعادة توزيع الموارد بطريقة مساواتية والاعتراف بالتنوّع البشري. ويمكن اعتبار موقف فريزر نسويًا حيال العدالة الاجتماعية، ولاسيما من خلال تركيزها على فهم الاختلاف والاحتفاء به.
لقد صيغت المطالب المنادية بالعدالة الاجتماعية بوضوحٍ في موجة الثورات العربية التي اندلعت في العام 2011. وبصرف النظر عن الهدف الرئيس المتمثّل بإنهاء السلطة الاستبدادية المُفرطة للأنظمة، كان الرفاه الاقتصادي في صلب المطالب كما اتّضح من الاحتجاجات العمالية الواسعة التي شهدتها مصر في الأحداث التي أدّت إلى ثورة ميدان التحرير، فضلًا عن سنواتٍ وسنواتٍ من الثورات في مناطق التعدين الفقيرة في تونس. أمّا في لبنان، فقد نادت أحدث موجات الاحتجاجات والتعبئة الاجتماعية في العام 2015 بوضوحٍ شديدٍ بمطالب تَنشُد العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية. ومن جملة هذه المطالب استقالة المسؤولين الفاسدين، وتوفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه التي يسهل الوصول إليها، فضلًا عن المطالبة بوضع حدٍ للهيمنة البطريركية والكارثة البيئية التي تطرحها أزمة النفايات التي اجتاحت بيروت. على هذا النحو إذًا، تُعتبر العدالة الاجتماعية مبدأً أساسيًا في النشاط المحلي والإقليمي الراهن والحركات الاجتماعية القائمة.