قاموس الجندر ثنائي اللغة
الأنْجَزَة (فرض نهج المنظّمات غير الحكومية)

استُخدم هذا المصطلح للدلالة بشكلٍ انتقادي على انتشار المنظّمات غير الحكومية، وبخاصةٍ في الدول النامية وبتشجيعٍ من المنظّمات المانحة الكبيرة. من سمات الأنجزة في المنظّمات غير الحكومية الاعتماد على الأطراف المانحة، والمساءلة أمامها لا أمام المستفيدين، والتركيز على قضيةٍ واحدة، والتشديد على الخبرة التقنية، والابتعاد عن تنظيم القاعدة الشعبية وحشدها، ما يؤدّي إلى نزع الطابع السياسي ودعم “آلةٍ مناهضةٍ للسياسة” في التنمية(1).

 

في تسعينيات القرن العشرين، ربط الباحثون الذين يتناولون في كتاباتهم موضوع الدَمَقرَطة (إرساء الديمقراطية) بين المنظّمات غير الحكومية وتطبيق اللامركزية المؤسسية، أيّ تحويل المسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية بعيدًا عن سلطة الدولة (المركز)(2). وبالتالي، اعتُبر إنشاء المنظمات غير الحكومية وتمويلها أسلوبًا ينطوي على قدرةٍ كبيرةٍ على التدخّل الاجتماعي السريع ومساءلةٍ عاليةٍ أمام المواطنين. بهذا المعنى، اعتبَرت الجهات المانحة “الشمالية” تكاثر المنظّمات غير الحكومية في الدول النامية شرطًا أساسيًا لازدهار المجتمع المدني، لاسيما في دول ما بعد الحكم الاشتراكي(3)، بل وفي الدول الاستبدادية الحديثة ما بعد الاستعمار – بما فيها الدول العربية. ومنذ ذلك الحين، حاجج منتقدو سياسات التنمية الشمالية/ الغربية بأنّ المنظّمات غير الحكومية هي ببساطة الأشكال المؤسسية المفضّلة لدى النيوليبرالية، وذلك لأنّها ساعدت أساسًا على تسهيل انكفاء الدولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية عبر الاكتفاء بتقديم الحدّ الأدنى منها، واحتوت بالتالي التوجّهات التي تنحو إلى المعارضة والتجذّر(4).

 

برز مصطلح الأنْجَزة بخاصةٍ من تجارب أميركا اللاتينية والهند مع السياسة التنموية والإمبريالية الاقتصادية النيوليبرالية. وقد وصفت الكاتبة والناشطة السياسية أرونداتي روي، وهي منتقدة أساسية للسياسة التنموية، المنظمات غير الحكومية بـ“الأنواع المؤشّرة” إلى النيوليبرالية، محاججةً بشكلٍ استفزازي بأنّه “كلّما عَظُمَ الدمار الناجم عن النيوليبرالية، عَظُمَ معه تفشّي المنظّمات غير الحكومية”(5). وقد أظهرت البحوث عن فلسطين(6) ونيكاراغوا أنّ المنظّمات غير الحكومية أضعفت المنظّمات الشعبية، على الرغم من أنّ الأخيرة تضمّ قواعد اجتماعية كبيرة وتتمتّع بتاريخٍ من التعبئة المتّسقة(7). وفي السياق اللبناني، ترتبط الأنجزة ارتباطًا وثيقًا بالسياسة الطائفية والنيوليبرالية في فترة ما بعد الحرب، حيث تبنّت سياسة الدولة الطائفية أحيانًا المنظّمات غير الحكومية التي تأسّست حديثًا بدلًا من التصدي لها(8).

 

وكانت المنظّمات النسائية بشكلٍ خاص عرضةً للأنجزة أو أقلّه تركّز حولها معظم النقد الموجّه ضدّ هذه الظاهرة. وقد أشارت الدكتورة إصلاح جاد إلى أنّه في حالة فلسطين، قد يقوّض استفرادُ النساء كمجموعة مُستَهدَفة المجموعات التي تمحورت حول نضالات الاستقلال الوطني(9). أمّا في لبنان، فقد أدّت أنجزة التيارات النسائية على نحوٍ متزايد إلى نتائج مختلفة، لكن يمكن ملاحظة وجود اتجاه واضح ينزلق نحو الاحترافية(10). بالإضافة إلى ذلك، يدلّ تكاثر المنظّمات غير الحكومية المعنية بالحقوق الجنسانية بشكلٍ سريع في العقد الماضي على تفضيلٍ للمقاربة الاحترافية المؤسسية على حساب تنظيم القاعدة الشعبية المجتمعية، في سياقٍ اتّسمت فيه محاولات التنظيم هذه بفترة حياةٍ سريعة الزوال، أقلّه منذ أواخر التسعينيات. وعلى الرغم من أنّ الجهود المبذولة في تنظيم المجتمعات من القاعدة موجودةٌ بالفعل، كما لا تزال تفعل مجموعات سرية كثيرة ناشطة في سبيل النسوية والكوير عند تنظيم ذاتها، يميل المراقبون إلى تحديد ميلٍ لاتّباع اتجاهات الجهات المانحة العالمية. ويمكن أن تنعكس هذه الاتجاهات أحيانًا في اعتماد قضيةٍ محدّدة (القضية البالغة الأهمية التي تتناول عاملات المنازل المهاجرات على سبيل المثال، والتي يُمكن القول إنّها جاءت على حساب إهمال قضايا النساء العاملات الأخريات على المستوى المحلّي) أو في اختيار البنية المفضّلة (سواء هرمية، أو “غير هرمية” عمدًا، أو جماعية أفقية أو تعاونية، إلخ). ويمكن القول إنّ هذا الاختيار يُصار إلى اعتماده من خلال عملية التفاوض حول مجموعة من الخبرات على الأرض بالتعامل مع السلطة ومع مختلف الاتجاهات المُعَوْلِمة.

 

تميل المنح الدراسية الجديدة إلى تحديد فارقٍ صغير في الانقسام الثنائي بين “منظّمة غير حكومية” و“حركة اجتماعية”، على اعتبار أنّ المصطلح الأوّل “يشير إلى وضعيةٍ” والثاني إلى “سيرورة”، ما يُسلّط الضوء على أنّ الفصل منطقي بالنسبة إلى الناشطين/ الناشطات أنفسهم(11)، وهذا ما يمكن أيضًا ملاحظته في السياق اللبناني. وبات أبرز الباحثين الذين انتقدوا في السابق وبشدّة الأنجزة يشجّعون على إجراء إعادة تقييمٍ أكثر تباينًا للعمل الذي تقوم به المنظّمات غير الحكومية، وبخاصّة تلك التي تركّز على النساء(12). ويزعم هؤلاء الباحثون أنّ عمل المنظّمات غير الحكومية ليس دائمًا مُؤَنْجَزًا بالكامل، بل أنّ المنظّمات غير الحكومية النسائية لطالما اضطلعت بوظيفة مختلَطة، بوصفها تيارات نسوية ناشطة ومقدّمةَ خبرات تقنية للمجتمع المدني على حدٍ سواء. وتزعم الأكاديمية الرائدة سونيا ألفاريز أنّ عددًا كبيرًا من المنظمات غير الحكومية النسائية في أميركا الجنوبية كان مُنتِجًا للمعرفة النسوية وناشرًا لها، وأنّ هذه المنظّمات ساهمت في إدماج بعض الأفكار النسوية على الأقلّ في الخطابات التي تتناول موضوع التنمية(13). ويُعدّ النظر في إعادة التقييم هذه أمرًا ضروريًا في الحركات الناشطة في بيروت، وفي السياق اللبناني ككلّ.

عند النظر إلى مجموعات حقوق المرأة الناشطة في بيروت وتفاعلها مع الجماعات المحلية، يمكن المرء أن يلاحظ وجود اعتماد على “استخدام وسائل الإعلام” في قضايا معيّنة، مثل حملات العنف المنزلي التي تديرها منظمة ‘كفى’ والتي تؤدّي عندها إلى تعبئة الجماعات المحلية(14). وعلى الرغم من أنّ هذه المقاربة تفيد في تعميم المسائل الملّحة للغاية في قضية العنف ضدّ المرأة، إلّا أنّها توجّه طاقات المنظّمات وتمويلها نحو تغييراتٍ في القانون أو الأيديولوجيا (انظر مثلًا حملة كفى ضدّ شراء الرجال للخدمات الجنسية(15))، وتمسي في بعض الأحيان أيضًا أسيرة خطاب الضحية الذي يحدّ من صياغة مفاهيم المرأة بوصفها طرفًا وناجيةً فحسب.

 

بشكلٍ عام، وكما هو مبيّنٌ أعلاه، يرتبط بعض المبادئ كـ“تعميم مراعاة المنظور الجندري” و“حقوق المثليين والمثليات وثنائيي وثنائيات الميل الجنسي والمتحوّلين والمتحوّلات جنسيًا” ارتباطًا قويًا بالسياسة عبر الوطنية للمنظّمات غير الحكومية وبأولويات الجهات المانحة. وغالبًا ما يؤدّي هذا إلى تكيّفاتٍ غير فعّالة وإشكالية إلى حدٍ كبير. لكن على الرغم من الانتقاد الموجّه إلى مجموعات الحقوق النسائية والجندرية والجنسانية، مثل منظّمتي كفى وأبعاد وجمعية حلم، وسياساتها المتناقضة في كثيرٍ من الأحيان، إلّا أنّ هذه المجموعات تمكّنت من إدراج الأفكار النسوية والمواقف المعادية لكراهية المثلية في الخطابات السائدة من خلال الجهود القانونية المذكورة أعلاه أو الحملات الإعلامية.