حتى منتصف القرن العشرين، كان مصطلح “النوع الاجتماعي” يُستخدم فحسب للدلالة على الفئة النحوية التي تصنّف الأسماء بين مؤنّث ومذكّر وما ليس أيًا منهما، أو تميّز بين الأشياء الحيّة وتلك الجامدة. حاليًا، يُستخدم تعبير “النوع الاجتماعي” عند الإشارة إلى الهويات الاجتماعية كـ“الـمرأة” أو “المتحوّل/ة جنسيًا” أو “الرجل” أو “غير ذلك”. وعلى الرغم من أنّ كلمة “جنس” عينها تُستخدم للدلالة على كلٍ من النوع الاجتماعي والجنس في اللغة العربية (وعلى “الفعل الجنسي” كذلك)، إلّا أنّ التفريق الحديث بين الجنس (مذكّر - مؤنث) والنوع الاجتماعي (رجل - امرأة) قائمٌ اليوم.
أمّا في اللغة الإنكليزية، يُعدّ التمييز بين النوع الاجتماعي والجنس طريقةً شائعةً لتعريف النوع الاجتماعي؛ ففي حين يُفهم الجنس في إطارٍ بيولوجي، يُبنى النوع الاجتماعي على أساسٍ اجتماعي. وعمومًا، يُعدّ التفريق بين الجنس البيولوجي والنوع الاجتماعي المبني إشكاليًا. وقد حاججت البحوث التي أُجريت مؤخّرًا بأنّ ما يُسمّى بـ”الجنس البيولوجي” قائمٌ هو أيضًا على أساس النوع الاجتماعي. على سبيل المثال، تشير آن فاوستو - ستيرلينغ إلى أنّه ثمة أدلة كافية في علم الأحياء تشير إلى أنّ الجنس هو مجموعةٌ من الاحتمالات، وليس عبارة عن ثنائيةٍ صلبةٍ قوامها الذكور والإناث، وهذه هي أيضًا الحجة التي يقيمها حاملو/ حاملات صفات الجنسين. وقد بلورت الافتراضات حول الجنسين البحوثَ العلمية بحيث يتمّ فرض نظام ثنائي ذَكري أنثوي على مجموعة متنوّعة وأكبر بكثير من التكوينات لدى البشر والحيوانات والنباتات(1).
يُعدّ الجدل حول “النوع الاجتماعي” (وعلاقته بـ“الجنس” و“الجنسانية”) مركزيًا بالنسبة إلى النظرية النسوية. فقد شاع مصطلح “gender” (النوع الاجتماعي) في سبعينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة وأوروبا لمكافحة الحتمية البيولوجية، أي الزعم بأنّ تبعية المرأة على الصعيد الاجتماعي متجذّرة في “تغايرها” الجسدي (أي أنّها أدنى لأنّها أنثى). وكان هذا الزعم منتشرًا بصورة متساوية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وقد قادت الكفاحَ ضدّ تطبيع تبعية المرأة نسوياتٌ شهيرات مثل نوال السعداوي في مصر(2)، ونسويات الموجة الثانية في لبنان اللواتي تصدّين لتطبيع الأدوار الاجتماعية. وفي الأوساط الأكاديمية في أميركا الشمالية، حاججت نسويات ماركسيات مثل شولاميث فايرستون وغايل روبن بأنّ “النوع الاجتماعي” يشير إلى مفاهيم اجتماعية حول الذكورة والأنوثة استندت إلى مبالغةٍ في الاختلافات البيولوجية بين المرأة والرجل. عرّفت النسويات الماركسيات “النوع الاجتماعي” باعتباره بناءً اجتماعيًا متغيّرًا عبر التاريخ(3)، وأُدرجت وجهات نظرهنّ في مقاربات التحليل النفسي والنظريات البنيوية التي تسلّط الضوء على أهمية التنشئة الاجتماعية في مرحلة الطفولة المبكرة بغية إخضاع المرأة للرجل وصَوْغ أنماطٍ معيارية من الذكورة والأنوثة. وتدعم المواقف الثلاثة كلّها فكرة أنّ النساء والرجال يوجدون كمجموعات، وأنّ بعض التجارب والتوقعات الاجتماعية يأسر بعض الأشخاص في فئة “المرأة”. وبسبب ذلك، وُصفت هذه المقاربات بالـ“واقعية جندريًا”؛ أمّا الآثار السياسية الناجمة عن التعريف الواقعي بالـ“نوع الاجتماعي”، فهي أنّ المطالبة بالعدالة بين الجنسين يمكن أن تتمّ باسم “النساء” كمجموعة (وهذا هو المنطلق الرئيس للموجة النسوية الثانية، ولا يزال ذا صلةٍ اليوم في مكافحة التفرقة القائمة على النوع الاجتماعي)(4).
يمكن أيضًا أن يُفهم النوع الاجتماعي بوصفه أداءً. وتُعدّ جوديث بتلر أشهر من حاجج بأنّ النوع الاجتماعي ينبغي أن “يتكرّر” بشكلٍ مستمر حتى يبقى موجودًا. ففي كتابها Gender Trouble (مشكلة النوع الاجتماعي) الذي نشرته في العام 1990، لجأت بتلر إلى مفهوم الأدائية لتدحض بعض الافتراضات الرئيسة التي أوجدتها الموجة النسوية الثانية. وحاججت هذه الفيلسوفة الأميركية بأنّه عندما يدّعي بعض النسويات أنّ النظام البطريركي يقمع “المرأة”، فإنّهن يصغن تعريفًا ضمنيًا وثابتًا لماهية “المرأة”، وهذا يؤدّي إلى الاستمرار باعتماد هذه الثنائية عينها من دون تحطيمها. وعوض سياسة الهوية التي ينتهجها الواقعيون جندريًا، تؤيد بتلر سياسةً تشكّك على الدوام بأيّ تعريفٍ للنوع الاجتماعي وتقوّضه، وبخاصةٍ التعريف القائم على الهوية. كان موقف بتلر مؤثّرًا في نشاط الكوير وتطوير نظرية الكوير(5)، وفي مقابلة أجريت معها في العام 2014، أوضحت أنّ “الأدائية الجندرية” لا تعني ضمنًا أنّ النوع الاجتماعي مرنٌ دائمًا أو ينبغي أن يكون كذلك. بدلًا من ذلك، ذكرت بتلر أنّ الهدف من كتابها مشكلة النوع الاجتماعي هو التأكيد على الاحتمالات الكامنة خلف الثنائيات الجندرية وعلى أهمية التعريف الذاتي. ويؤيّد هذا الموقف تأييدًا كاملًا الاعتراف بتجارب الأشخاص المتحوّلين جنسيًا وتحديد هوياتهم، ويلتزم أخلاقيًا بنزع وصمة العار عن خياراتهم بشأن عرض النوع الاجتماعي والعمليات الجراحية لإعادة تحديد الجنس(6).
لقد أصبح مصطلح “النوع الاجتماعي” يحلّ محلّ مصطلح “الجنس” في الخطاب الشائع، في حين يحلّ مصطلح “النوع الاجتماعي” و/أو الجندر على نحوٍ متزايد محلّ مصطلح “الجنس” في خطاب الجمعيات اللبنانية الناشطة ومنشوراتها، وتحديدًا كجزءٍ من الجهود المبذولة لتعميم مراعاة المنظور الجندري، وهي جهودٌ ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأنْجَزة المتزايدة، ومأسسة التيارات النسوية والنسائية، والتوجه عمومًا نحو الاحترافية في عمل الناشطين/ الناشطات والمسائل المتعلقة بالنساء. وقد أخرجت نسويات الموجة الرابعة في لبنان على وجه الخصوص “النوع الاجتماعي” من معناه الثنائي (أو الفردي غالبًا)، واشتركن في إعادة صياغة المفاهيم النسوية للكوير المُبيّنة أعلاه والتي توسّع مرجعية المصطلح لتتخطّى النساء ذوات الهوية الجندرية المعيارية. واجهت الجمعيات الأوروبية والأميركية، الناشطة على مستوى القاعدة الشعبية في سبيل قضايا المثليين والمثليات وثنائيي وثنائيات الميل الجنسي والمتحوّلين والمتحوّلات جنسيًا – وإلى حدٍّ ما الجمعيات الناشطة اللبنانية المحلية -، هذا الخلط الثنائي الشائع من خلال ضروب الأداء التي تؤطّر النوع الاجتماعي، كارتداء ملابس الجنس الآخر والاحتضان البادي للعيان لبعض الهويات كالكوير جندريًا(7). أمّا إنجازات ضروب الأداء هذه، فتتمثّل بتحدّي الثنائية الجندرية التي تُعتَبر أمرًا طبيعيًا ومتماسكًا، وبكشف أنّ العرض الذاتي القائم على جميع الأنواع الاجتماعية يمكن أن يكون/ هو عرضٌ أدائي.