“النسوية” مصطلح شامل لمجموعة من الحركات الاجتماعية العالمية والمدارس الفكرية، ذات تأثير سياسي كبير منذ أوائل القرن التاسع عشر. وقد تشكّلت مختلف الحركات النسوية تاريخيًا بفعل الأيديولوجيات السياسية (وشكّلتها) كالليبرالية والاشتراكية ومؤخرًا الإسلامية. وتلاقت هذه الحركات النسوية المتعدّدة حول أجنداتٍ لمكافحة القمع القائم على أساس النوع الاجتماعي، والعمل على تحقيق المساواة الجندرية، والتحرّر الجنسي على نحوٍ متزايد في الوقت الحاضر.
من منظور الحركات الاجتماعية، تمثّل التطوّر الكبير في العقدين الماضيين بالانتشار العالمي للنسخة الأنغلو-أميركية من النسوية الليبرالية عبر المنظّمات الدولية كالأمم المتحدة، ومأسسة هذه النسخة عن طريق الأنجزة (راجع تعريف الأنجزة). وفي الوقت عينه، شهدت الحركات النسوية المستقلّة أو شبه المستقلّة، القائمة على نقدٍ أكثر راديكاليةً أو محليةً، درجةً معيّنةً من التوسّع المُعَولَم في العقود القليلة المنصرمة(1)، لتشمل مثلًا نضال المرأة ضدّ الحرب ونصرة حقوق السكان الأصليين (راجع تعريف العدالة الاجتماعية). علاوةً على ذلك، تبدّت مقاربات التفكيكية ومنظورات التقاطعية وما بعد الاستعمار بوضوحٍ أكبر في الحركة النسوية بوصفها تيارًا فكريًا في السنوات العشرين الأخيرة. وفي حين أنّ النسويات الأكاديميات والمناضلات، الأوروبيات منهنّ والأميركيات، أقمن اتصالاتٍ عبر وطنية مهمة، إلّا أنّه لا يمكن تجاهل التباعد المتكرّر بين العمل الأكاديمي من جهة والحقائق والنضال على مستوى القاعدة الشعبية من جهة أخرى (أقلّه في المجالات التي تتّسم فيها الدراسات النسوية والجندرية بدرجةٍ عالية من المأسسة).
أمّا الطريقة المعتمدة في سرد تاريخ الحركة النسائية الحديثة في أوروبا والولايات المتحدة، فتقضي بتقسيمها إلى ثلاث موجات: “الموجة الأولى” التي امتدّت من نهاية القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، و“الموجة الثانية” التي تكشّفت في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، و“الموجة الثالثة” التي بدأت في تسعينيات القرن الماضي ولا تزال مستمرةً حتى اليوم. في الستينيات، وُلدت حركاتٌ ونظرياتٌ نسويةٌ مميّزة من رحم الآراء المتعارضة بشأن تمظهرات القمع والتفرقة وأفضل السبل لمعالجتها. ووفقًا لهذه السردية الوصفية، كانت التيارات الرئيسة هي النسوية الليبرالية (التي تزعم أنّ اللامساواة الجندرية تستند إلى المعتقدات الثقافية والبنى الاجتماعية التي يسهل تغييرها)، والنسوية الماركسية (التي تربط الرأسمالية بقمع المرأة)، والنسوية الراديكالية (التي تنتقد العنف الذي تمارسه الهيمنة الذكورية من خلال البنى العائلية والتحكّم بالجنسانية) وأخيرًا النسوية المثلية (التي ينظَر إليها بوصفها قدّمت تحليل الغَيرية الجنسية للبطريركية كأداةٍ تستخدمها للهيمنة على المرأة والكوير (راجع تعريف البطريركية).
وفي لبنان، يمكن – وتمّ بالفعل – وصف تاريخ الحركات النسوية أيضًا باعتماد التصنيف إلى موجات، لكنّه يشتمل على أربع مراحل (أو “موجات”)(2)، أثّر فيها كلّها الإرث ما بعد الاستعماري ومرحلة إلغاء الاستعمار، واتّسمت أيضًا بالتحوّلات التنظيمية. فقد رُبطت “الموجة الأولى” بالكفاح الوطني في سبيل الاستقلال في العام 1943 وتمحورت حول المطالب المنادية بمنح المرأة حقوقها السياسية وحول المسائل التي تطرحها الهوية الوطنية. أمّا نسويات الجيل الثاني، فأعربن عن أفكارهنّ ومطالبهنّ في إطار اليسار العربي الناشئ، وبالتالي في إطار الحركات الاشتراكية الأوسع التي برزت في ستينيات القرن المنصرم(3). ثمّ ظهرت الموجة الثالثة في مرحلة ما بعد الحرب وفي سياقٍ سريع الأنجَزة(4). وتجدر الإشارة إلى أنّ المؤتمر العالمي الرابع المعني بحقوق المرأة الذي عُقد في بيجينغ في العام 1995، شكّل حدثًا رئيسًا لتعريف المجتمع المدني ومنظّماته الآخذة في الازدياد بمصطلحات النشاط في قضايا النوع الاجتماعي.
أمّا الحركة النسوية التي شكّلت الموجة الرابعة والأحدث في لبنان، فتناولت الدور الاجتماعي الذي يؤديه الجندر والنضال ضدّ القمع الذكوري والنظام البطريركي، وهي الموجة المتجذّرة محليًا في نشاط المثليين والمثليات وثنائيي وثنائيات الميل الجنسي والمتحولين والمتحولات جنسيًا(5) (راجع تعريف المثليين والمثليات وثنائيي وثنائيات الميل الجنسي والمتحولين والمتحولات جنسيًا). وأثارت هذه المجموعات والمنظمات غير الحكومية وهؤلاء الناشطون القضايا التي لم يتم تناولها في السابق، كمسائل الهوية الجنسية والحقوق الجسدية وحق المرأة في منح جنسيتها، بالإضافة إلى العنف المنزلي وإساءة معاملة العاملات في المنازل (راجع تعريف العمل والجنس والحقوق الجسدية). وقد أكّدت هذه الحركات أيضًا على الحاجة إلى الركون بشكلٍ أكبر إلى السياقات المحلية، وبنت إلى حدٍ كبير على نسوية ما بعد الاستعمار وعلى المناقشات الأكاديمية حول النوع الاجتماعي والجنسانية (انظر تعريف الجنسانية).
عمومًا، حاول المؤرخون/ المؤرخات أن يضيفوا وجهة نظرٍ أكثر تعقيدًا عن نظام التصنيف إلى موجات. فحاججوا بأنّ الحركات كانت معنيةً بالحصول على الحقوق السياسية الأساسية للمرأة في “الموجة النسوية الأولى”، في حين أنّ نسويات “الموجة الثانية” كنّ أكثر راديكاليةً وطالبن بالمساواة الجندرية وبتحرّر المرأة، بينما وضعت “الموجة النسوية الثالثة” الهوية (الجنسية والعرقية والطبقية الاجتماعية) في قلب النضال في مسائل النوع الاجتماعي، في إطار مجتمعاتٍ مُعَولَمة ونيوليبرالية في مرحلة ما بعد الاستعمار. بالإضافة إلى ذلك، انتقد بعض المؤرخين/ المؤرّخات مثل ليندا نيكولسون استعارة “الموجة”، معتبرين أنّها “مضلِّلةٌ تاريخيًا وغير مفيدةٍ سياسيًا”، إذ تفرض تجانسًا كاذبًا ضمن “الموجات”، ما يعتّم بالتالي على أشكالٍ من النشاط برزت “بين الموجات”(6). ويمكن أيضًا إسقاط هذا النقد على تصنيف النشاط النسوي في لبنان، ولاسيما في فترة الحرب الأهلية. يمكن بصورةٍ عامة نقد المقاربة المعتمدة على التصنيف إلى موجاتٍ لأنّه يعمم تأريخًا للنشاط النسائي ونموذجًا عنه يتمحور كلاهما حول الولايات المتحدة. فبهذه الطريقة، ينتهي الحال بأنّ يتمّ إهمال معظم نشاط نساء القاعدة الشعبية ونضالهنّ في القرن العشرين تحت راية الحركات المناهضة للاستعمار، من فلسطين إلى نيكاراغوا ومرورًا بكردستان السورية، إذ إنّ نشاطًا ونضالًا كهذين لا يمكن ضمّهما بشكلٍ تام إلى التصنيف إلى ثلاث موجات(7).
شكّلت مقاربتا ما بعد الاستعمار والتقاطعية(8) جزءًا من التدخلات المفاهيمية والمنهجية الرئيسة في النسوية، حركةً أكاديمية وممارسةً ناشطة (راجع تعريف التقاطعية). فـ “ممارسة” نسوية ما بعد الاستعمار تستلزم ضمّ الإثنية والعرق وامتلاك وعيٍ بالماضي الاستعماري وسياقات ما بعد الاستعمار في إنتاج المعرفة النسوية. بهذا المعنى، شكّلت المقاربات النسوية أساسًا بالغ الأهمية لنظرية ما بعد الاستعمار، وهي مقارباتٌ تهدف إلى تسليط الضوء على تأثير الاستعمار والعنصرية، وإلى القضاء على المفهوم الإمبريالي والتعميمي للأخوّة بين النساء. كذلك، كشفت الحركة النسوية الأكاديمية في مرحلة ما بعد الاستعمار عجز نسويات الطبقة الوسطى البيض عن الاستماع على الوجه الصحيح إلى تجارب النساء اللواتي يعشن في بيئات ما بعد الاستعمار(9). على سبيل المثال، أشارت المنظّرة النسوية شاندرا تالبيد موهانتي، في مقالٍ تناولت فيه هذه المسألة، إلى تحوّل نساء ما يُسمّى بـ“العالم الثالث” في الخطابات النسوية إلى “أغراضٍ” تمثيلية، ما يتيح للنسويات الأوروبيات والأميركيات الشماليات تحويل أنفسهنّ إلى “أفراد” يمثّلون أنفسهم، وهذا يبقي بوضوحٍ على علاقات القوة غير المتكافئة(10).
وقد تمّ توجيه نقدٍ آخر للنسوية الأوروبية والأميركية الشمالية السائدة، وذلك من خلال النسوية الإسلامية، وهي نظريةٌ صاغتها أولًا المفكّرات الإيرانيات في تسعينيات القرن العشرين، ووصفتها ستيفاني لاتي عبد الله بأنّها حركة “ما بعد أيديولوجية” (11). وحاججت الكاتبة فالنتين مقدم بأنّ النسوية الإسلامية تمثّل تحوّلًا محلّيًا في النسوية، قادرًا على مواجهة الحجج النسبوية الثقافية التي اعتبرت أنّ انتقاد بعض الممارسات الجندرية غير المتكافئة إنّما هو نوعٌ من فرضٍ أجنبي. كذلك، رأت مقدم أنّ النسوية الإسلامية قادرةٌ على تأكيد الطابع الحميد لعددٍ من الممارسات كارتداء الحجاب الذي غالبًا ما ترى فيه النسويات العلمانيات ممارسةً تفريقية(12). وفي السياق الأميركي، يُعدّ الموقف “ما بعد النسوي” موقفًا نظريًا وناشطًا يكتسب اهتمامًا متزايدًا. ووفقًا لميشا كافكا، تدلّ الحركة ما بعد النسوية على العدول عن اعتبار النساء والنوع الاجتماعي فئتين تتمتّعان بامتيازٍ خاص في البحوث النسوية. بالإضافة إلى ذلك، تنتج ما بعد النسوية معرفةً تسترشد بـ“الموجات النسوية السابقة”، وذلك بطريقة «تعيدُ تعريف الكونية نفسِها”(13).
أمّا النشاط النسوي في لبنان – سواء عبر الاحتجاجات العلنية أم عبر المنظّمات غير الحكومية والمجموعات النسوية ومجموعات الكوير، السرية منها وغير السرية – فيتابع مسيرته، وبخاصةٍ غداة الانتفاضة العربية والظروف السياسية اللاحقة. ولا تزال دعواتٌ مختلفة تنادي بوضع حدٍ للنظام البطريركي - الطائفي، كما هي الحال على سبيل المثال مع تشكّل كتلةٍ نسويةٍ مؤخرًا شاركت في الاحتجاجات الجارية ضدّ الفساد وأزمة النفايات في بيروت. تسلّط الكتلة الضوء على كيفية قيام النظام الطائفي الفاسد بطبيعته على التفرقة البطريركية – وهو ما تبدّى جليًا في اعتماد المجموعة مثلًا على بعض الشعارات، ومنها “النظام الأبوي قاتل” – لا بل إنّها تعترض أيضًا على التحرّش الجنسي والعنف بحقّ المرأة داخل الحركة التي نشأت بفعل أزمة النفايات وفي الاحتجاجات التي عمّت الشوارع(14).