
١. مقدمة
تدفع التحديات الملازمة لنظام الرعاية الصحية العامة في لبنان، لاسيما الرعاية المتخصصة، المقيمين في البلد للجوء إلى الخدمات الصحية الخاصة، ما يفضي إلى تكاليف كبيرةٍ يتكبدها المرضى. وبناءً على ذلك، يُحرم عددٌ كبيرٌ من الأشخاص ذوي الموارد المحدودة من الحصول على الخدمات الصحية. في هذا السياق، وحتى قبل أزمة اللاجئين السوريين، توّلت عدّة منظماتٍ غير حكوميةٍ ومنظماتٍ دينيةٍ وجمعياتٍ خيريةٍ مجالاتٍ محدّدةً من الرعاية الصحية، ما يؤدي إلى تجزئةٍ كبيرةٍ للتزويد بالمساعدة الطبية. منذ العام ٢٠١١ ، تسجّل في لبنان ما يزيد عن مليون لاجئ سوري، مضيفين مزيداً من الضغط على توفير الرعاية الصحية الضعيفة أصلاً في لبنان. يسعى هذا التقرير إلى تسليط الضوء على التحديات التي تعترض اللاجئين السوريين في ضمان الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية. وهو الثالث من سلسلة تقارير تسعى إلى تحليل تأثير سياسات الحكومة اللبنانية في حياة اللاجئين السوريين اليومية.
منهجية البحث
يستند هذا التقرير إلى بحثٍ مكتبي وعملٍ ميداني. يتألّف العمل الميداني من إجمالي ٢٦ مقابلةً مع لاجئين سوريين، أُجريت بين شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس 2016 . استخدم ’دعم لبنان‘ شبكته الواسعة من اللاجئين السوريين والعاملين في المجال الإنساني وناشطي المجتمع المدني والأطباء والباحثين في المجال الطبي، إضافةً إلى العاملين في قطاعات الرعاية الصحية الأولية والثانوية والثالثية، لتحديد من يحصلون على الرعاية الصحية في لبنان وإلى أيّ مدى يحصلون عليها. اتّبعت المقاب ات كافّةً دليلاً شبه منظّمٍ لإجراء المقابلات ولم يقدّم’دعم لبنان‘ أيّ محفزات. كذلك، أبدى جميع المحاورين موافقةً شفهيةً مسبقةً على المشاركة وضُمن لهم الإبقاء على سرّية هويّاتهم ما لم يوافق المقابَلون صراحةً على الاستخدام العلني لأسمائهم. أُجريت معظم المقابلات شخصياً في بيروت ومناطق لبنانية أخرى. كما أنّ معظمها أجري ضمن جلساتٍ خاصّةٍ إمّا باللغة العربية أو باللغة الإنكليزية. تألّفت مجموعة محاورينا من سوريّين رجالٍ ونساء، تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والستين. وقد نوقشت النتائج الأولية لهذه الدراسة في اجتماعٍ للمعنيين المتعدّدين في شهر تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٦، وأُدرجت الملاحظات في التحليل.
٢. نظام الرعاية الصحية في لبنان
عندما أحرز لبنان استقلاله في العام ١٩٤٣ ، شرعت الدولة اللبنانية في تطوير سياسة رعايةٍ صحيةٍ بغرض توفير الحصول على الرعاية الصحية للعائلات والمجتمعات ذات الدخل المنخفض في المناطق التي تفتقر إلى البنية التحتية للمرافق الصحية الملائمة. عُزّزت هذه المحاولات في خمسينيات وستينيات القرن العشرين عندما أنشأ الرئيس فؤاد شهاب (١٩٥٨ - ١٩٦٤) مؤسّساتٍ عامةً مثل وزارتي التخطيط والتنمية الاجتماعية لتطوير أنظمة الحماية الاجتماعية في لبنان. لكنّ محاولاته، ومحاولات أخلافه، لم تحقق سوى نجاحاتٍ محدودة. كما أنّ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥ - ١٩٩٠) وضع حدّاً نهائياً لخلق نوعٍ من الحماية الاجتماعية توجهه الدولة في لبنان. فضلاً عن ذلك، كانت معظم بنى المستشفيات العامة مدمّرةً حين انتهت الحرب في العام ١٩٩٠ ؛ وفي الوقت عينه، حافظ القطاع الخاص على فاعليته إلى حدٍ ما.
كذلك، شهد لبنان أثناء الحرب الأهلية فورةً في عدد منظمات المجتمع المدني التي ساهمت في إقامة شبكةٍ من مراكز الرعاية الصحية والعيادات والمستشفيات والمستوصفات في أرجاء البلد. وفّرت هذه الخدمات، ولا تزال، منظماتٌ علمانيةٌ ودينيةٌ ووطنيةٌ ودولية، وكذلك منظماتٌ غير حكومية. وعلى الرغم من أنّ هذه المنظمات توفّر خدماتٍ صحيةً خاصة، إلا أنّ كثيراً منها يعتمد في تمويله على الحكومة،
ما دفع الباحثين إلى وصف هذا النظام بأنّه “تمويلٌ عامٌّ للرعاية الصحية الخاصة”.
يبدو بالتالي أنّ نظام الرعاية الصحية في لبنان ليس مجزءاً بين مختلف المزودين العديدين فحسب، بل كذلك بين مختلف برامج الحماية الاجتماعية التي لا تساهم في ضمان وصول المواطنين والمقيمين الشامل إلى الرعاية الصحية. ما يعني أنّ الثروة و/أو الموقع في سوق العمل هما العاملان الأساسيان اللذان يحددان الوصول إلى الرعاية الصحية. نتيجةً لذلك، يحول تدخّل الدولة المحدود نسبياً، من خلال وزارة الصحة العامة، دون وصول كثيرٍ من المستضعفين اللبنانيين وغير اللبنانيين المقيمين في لبنان إلى الرعاية الصحية.
نظام حمايةٍ اجتماعيةٍ مجزأ خلافاً للبلدان الأخرى، يقوم نظام الحماية الاجتماعية اللبنانية ع ى العلاقة بين المواطن وقوة العمل، بدلاً من قيامه ع ى معاي ر الإقامة أو المواطنة المنسوبة إلى الدولة |
نظام حمايةٍ اجتماعيةٍ مجزأ
٣. مزودو الرعاية الصحية الأساسيون للاجئين وعوائق الوصول إليهم
يفرض نظام الرعاية الصحية الحالي سلسلةً من التحديات على اللاجئين في لبنان. ويُظهر بحثنا أنّ نظام رعايةٍ صحيةٍ مجزأ حرم معظم اللاجئين – والمستضعفين اللبنانيين – من سهولة الوصول إلى الخدمات الصحية. يسعى هذا القسم إلى تسليط الضوء على التحديات الأساسية التي أشار إليها عملنا الميداني. العوائق الرئيسية المحددة داخليةٌ وهي تتضمن انعدام الوضوح وانعدام الثقة والتفرقة الملموسة؛ أمّا العوائق والتحديات الأخرى المحددة، فهي هيكليةٌ أكثر، وتتضمن القدرة على تحمّل التكاليف، وتقديماً مجزأ ومحدوداً للخدمات، ورعايةً صحيةً للعناية الإسعافية فحسب.
بعض الأدوات الدولية التي تحمي حقوق المهاجرين والاجئن وطالبي اللجوء تنصّ المادة 25 من “الإع ان العالمي لحقوق الإنسان” ع ى أنّ لكلّ شخصٍ الحق في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة ع ى الصحة والرفاهية له ولأسرته، بحيث يتضمّن العناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة. كما أنّ “حق كلّ إنسانٍ في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه” منصوصٌ عليه أيضاً في “العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” للعام 1966 . ينبغي على الدول ال 156 المصادقة على هذا العهد “الامتناع عن حرمان أو تقييد إتاحة فرصٍ متكافئة لجميع الأشخاص” من الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية والمخفّفة، ومن ضمنهم “طالبي اللجوء والمهاجرين غير الشرعيين”. تنصّ “الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين” للعام 1951 ع ى “منح اللاجئ ن المعاملة نفسها” الممنوحة للمواطنين في ما يتعلق بالأمومة والمرض والعجز والشيخوخة. حدّدت “الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم” للعام 2003 حقوق العمال المهاجرين في الرعاية الصحية (على الرغم من قصورها عن تناول حقوقهم في التدابير الوقائية والمعالجة المبكرة). |
٣.١ المفوضة العليا للاجئين
إنّ المؤسسة الرائدة المشاركة في توفير إمكانية وصول اللاجئين السوريين المسجلين وغير المسجلين إلى الرعاية الصحية بمستوياتها الثلاثة في لبنان هي المفوضية العليا للاجئين. والمفوضية وكالةٌ من وكالات الأمم المتحدة، مسؤولةٌ عن مساعدة وحماية اللاجئين )من غير الفلسطينيين.
نطاق واسع من الخدمات: الرعاية الصحية بمستوياتها الأولية والثانوية والثالثية
تشير الرعاية الصحية الأولية إلى الاتصال الأولي للفرد بنظام الرعاية الصحية عندما يسعى إلى العلاج. إذا تطلّب المريض مزيداً من الرعاية التي لا يمكن أن توفّرها الرعاية الصحية الأولية، يحيل مزود الرعاية الصحية الأولية المريض من أجل مزيدٍ من الرعاية إمّا إلى المستوى الثانوي أو الثالثي من الرعاية الصحية. يشير المستوى الثانوي من الرعاية الصحية إلى رعايةٍ يقدّمها اختصاصي في منشأةٍ لديها قدراتٌ أكثر تقدّماً في الفحص الطبي، بينما تكون الرعاية الصحية من المستوى الثالثي رعايةً أكثر تخصصّاً تجري في مستشفى وعادةً ما تتضمّن رعايةً جراحية. كما أنّ المفوضية العليا تشير إلى المستويين الثانوي والثالثي من الرعاية الصحية بوصفهما “رعاية الإحالة”.
تقدّم المفوضية العليا إلى اللاجئين السوريين إمكانية الوصول إلى 28 مركزاً للرعاية الصحية الأولية في أرجاء لبنان يديرها شركاء المفوضية من المنظمات غير الحكومية ووزارة الشؤون الاجتماعية. بوسع اللاجئين السوريين المسجلين لدى المفوضية أو الداخلين في قيودها الحصول على الرعاية الصحية الأولية في هذه المراكز مقابل رسومٍ تتراوح بين ٣٠٠٠ و ٥٠٠٠ ليرة لبنانية للمعاينة، في حين يتكبد اللبنانيون ما بين ١٠٠٠٠ و ١٥٠٠٠ ليرة لبنانية. كما أنّ المفوضية تقدّم مجاناً أدوية الأمراض الحادة واللقاحات وفحصين بالأمواج فوق الصوتية للحوامل،
بينما تقدم أدوية الأمراض المزمنة )السكري وأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم والربو والصرع وما شابه( مقابل تكاليف المعاملة ومقدارها ألف ليرة لبنانية للزيارة.
لكنّ استطلاعاً أجري في العام ٢٠١٥ أظهر أنّ ٧١ بالمئة من اللاجئين السوريين الذين ذُكر أنّهم توقفوا عن تناول أدوية الأمراض المزمنة قاموا بذلك لأنّه لم يعد بوسعهم تحمّل تكاليف الدواء أو تكاليف المعاملة .
أمّا بالنسبة إلى الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن خمس سنوات والبالغين الذين تجاوزت أعمارهم ستين عاماً، إضافةً إلى الأفراد الضعفاء الآخرين مثل الحوامل أو الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، فتدفع المفوضية ٨٥ بالمئة من تكاليف الفحوصات المخبرية والتشخيصية؛ بينما ينبغي على باقي اللاجئين دفع ١٠٠ بالمئة من تكاليف الفحوصات.
وعلى الرغم من حقيقة أنّ المفوضية تقدّم بعض الخدمات مجاناً، إلا أنّ هذه الخدمات ليست كافيةً دائماً.
فض اً عن ذلك، يقع كثيرٌ من الأشخاص خارج نطاق مساعدة المفوضية بالنسبة إلى الرعاية الصحية الأولية، ما يؤدي بالتالي إلى تكاليف رعاية صحية لا يمتلك اللاجئون السوريون القدرة على دفعها، لأنّ كثيرين أبلغونا بأنّ تكاليف المعاينة مرتفعة جداً.
في ما يتعلق بالرعاية الصحية الثانوية والثالثية، تغطّي المفوضية ٧٥ بالمئة من تكاليف اللاجئين الطبية، ولكن في الحالات الطبية الإسعافية والمهددة للحياة فحسب.
وبالنسبة إلى معظم اللاجئين المعوزين، تقدّم المفوضية مساعدةً موجهةً تصل إلى ٩٠ بالمئة من التكلفة الإجمالية في حال توافر الأموال.
شدّد المحاورون مراراً وتكراراً على أنّ أحد التحديات المركزية التي يواجهونها يكمن في المقام الأول في أنّ هذه المعايير ضيقة. يوضح أحد المجيبين من منظمةٍ غير حكومية يعمل مع أحد الأطفال المصابين بالسرطان أنّه “حتى تعريف ما هو ‘مهدد للحياة’ غير واضح: فعلى سبيل المثال، لم تدفع المفوضية تكاليف عملية إنقاذ حياة في معالجة سرطان الأطفال”.
وفي المقام الثاني، تستبعد مساعدة المفوضية الموجهة للحالات الإسعافية المهددة للحياة كثيراً من المرضى المحتاجين فعلاً للمساعدة ولكنّ حياتهم ليست عُرضةً للخطر بعد. يشدّد العاملون في المجال الإنساني على أنّ هذا الأمر يحرم كثيراً من الأشخاص من حقهم الأساسي في الرعاية الصحية اللائقة. تشرح أمٌّ سوريةٌ المصاعب التي يفرضها هذا الأمر بالنسبة إلى الإصابات الشائعة:
"منذ سبعة شهور، ابتلع أحد أطفالي من غير قصدٍ قطعةً نقدية. لا نزال غير متأكدين إن كان جسمه قد أخرجها أم لا. ذهبنا إلى المستشفى وأخبروني بأنّهم بحاجةٍ إلى إجراء تصويرٍ بالأشعة، لكنّ المفوضية لن تغطي تكاليفه لأنّ الأمر ليس إسعافياً. كما أنّنا لا نستطيع تحمّل التكاليف بأنفسنا. إنّه يتألم منذ أسابيع، لكنّنا لا نعلم أين نذهب أو ماذا نفعل."
التغطية التي توفّرها المفوضية العليا
أكّد العاملون في المجال الصحي وفي المجال الإنساني واللاجئون السوريون أنّ حوادث السيارات أو إصابات العمل تتطلب رعايةً طبية وهي مسؤولية مالك السيارة أو مؤسسة العمل، والمفوضية لا تغطي ما هو غير مهددٍ للحياة. فض اً عن ذلك، لا يحق للاجئين السوريين الحصول على الإحالة للمساعدة الطبية المتعلقة بالأمراض المزمنة. هذا على الرغم من حقيقة أنّ غالبية المسائل الصحية الشائعة بين اللاجئين هي تلك التي يتعرض لها جميع البشر والتي يحدّدها أساساً الجنس والعمر والوضع الاقتصادي الاجتماعي.
وعلى الرغم من ذلك، لا تغطي المفوضية إلا تكاليف تفاقم الحالات الطبية الحاد أو استفحالها. يوضح ذلك طبيبٌ يعمل في منظمةٍ غير حكومية:
"لا تغطي المفوضية إلا تكاليف العمليات الهادفة لإنقاذ الحياة، استئصال الأورام الخبيثة مثلاً. لكنّ بعض الأورام لا تكون خبيثةً في البداية، ولا تتطلب إلا عمليةً جراحيةً صغيرة لإزالتها في هذه المرحلة. وإن لم نتدخل جراحياً في وقتٍ مبكر، فقد تنمو وتتحول إلى ورمٍ سرطاني بعد عامٍ أو إثنين. وعلى الرغم من ذلك، لا تغطي المفوضية تكاليف العمليات الجراحية الصغيرة للأورام غير الخبيثة. إنّ الآفاق المستقبلية بالغة السوء بالنسبة إلى اللاجئين السوريين."
علاوةً على ذلك، يوضح كثيرٌ من اللاجئين السوريين أنّ المفوضية لا تغطي كامل علاجهم، مؤكدين على أنّه حالما لا يعود وضعهم مهدداً للحياة، تتوقف المفوضية عن الدفع:
"لدي مرض كلوي، ومنذ بضع شهور مرضت بشدة. ذهبت إلى المستشفى ثلاث مراتٍ مصطحباً بطاقة تسجيلي في المفوضية فرفض طاقم المستشفى إدخالي، قائلين إنّهم لم يتلقوا الإذن من المفوضية. وحالما رأوا أنّ كليتي مسدودةٌ بالكامل، أدخلوني إلى المستشفى وقدّموا لي العلاج اللازم. أدخلوني مرتين لتلقي العلاج. وفي المرة الثالثة، قال لي الطاقم إنّ قبولي غير ممكن لأنّ المفوضية لا تستطيع تغطية تكاليف العلاج إلا لمرتين."
لا يقتصر الأمر إذاً على أنّ المعايير التي تحدّدها المفوضية كي يتلقى اللاجئون ٧٥ بالمئة من التغطية المالية ضيقةٌ للغاية، بل إنّ النسبة المئوية عينها لا تغطي نسبة المعالجة التي تزعمها. فضلاً عن ذلك، لا تغطّي المفوضية التكاليف الإضافية للمعاينة، أو أتعاب التشخيص، أو المنتجات الصحية (مثل فُوَط الأطفال)، أو الدواء، أو حتى الدفن. أضف إلى ذلك أنّ كثيراً من المحاورين شدّدوا على أنّ المعالجة نفسها قد تُغطّى، في حين أنّ المضاعفات الناجمة عنها لا تغُطّى في أغلب الأحيان.
الأكثر أهميةً أنّ اللاجئين السوريين لا يزالون يواجهون مدفوعاتٍ من جيوبهم الخاصة مع بقاء حصة المريض البالغة 25 بالمئة والتي لا تغطيها المفوضية. غير أنّ المرضى السوريين لا يستطيعون دفع أجور النقل إلى المستشفى أو رصيد بطاقة الهاتف للاتصال من أجل معرفة نتائج الفحص. ليست مفاجأةً إذاً أ لّ يكون معظم اللاجئين السوريين قادرين على دفع حصة المريض الخاصة بهم.
يجادل أحد العاملين في منظمةٍ غير حكوميةٍ في أنّه:
"ينبغي على اللاجئين السوريين دفع الإيجار أولاً. إذ يبلغ إيجار أرخص شقةٍ في شاتيلا حوالي ٣٠٠ دولار. ثانياً، معظم الأشخاص لا يستطيعون إيجاد عمل، إمّا لصعوبة ذلك أو لأنّهم وقّعوا التعهد بعدم العمل. وحتى لو استطاع أحدهم إيجاد عمل، فلن يُدفع له أكثر من ٤٠٠ إلى ٥٠٠ دولار. وحتى بعد ذلك، لا يستطيع الناس التنقل كما اعتادوا من قبل، لأنّه لم تعد لديهم إقامات. أرخص عمليةٍ جراحيةٍ تُكلّف ٦٠٠ دولار. كيف يمكنهم تحمّل مثل هذا المبلغ؟ .
بيروقراطية ثقيلة مقيدة بسقفٍ أعلى
أخبرنا مزودو الرعاية الصحية أكثر من مرّةٍ عن طول زمن الإجراءات اللازمة قبل موافقة كافة الأطراف على المعالجة. لكنّ الوقت لا يكون دائماً لصالح المريض. مثلما يوضح أحد العاملين في منظمةٍ غير حكومية، “ينبغي أحياناً إجراء العملية الجراحية بسرعةٍ تفوق سرعة إنجاز المعاملات”.
والسقف الأعلى المقدّر بعشرة آلاف دولار غير كافٍ في أغلب الحالات. يقول ممثلٌ لمستشفى مهم في بيروت:
"أعتقد أنّ مبلغ عشرة آلاف دولار غير كافٍ لمعظم المرضى. يكون هذا المبلغ معقولاً بالنسبة إلى العمليات الجراحية الصغيرة التي تجري في يومٍ واحد، مثل الولادات. لكنّ تكاليف بعض العمليات أكبر، لاسيما إن كنّا نتحدث عن أمراضٍ مزمنة أو عملياتٍ جراحيةٍ عظمية. وبطبيعة الحال، قد يضطر المريض للبقاء مدةً أطول في العناية المشددة (القلبية) إذا حدثت مضاعفاتٌ بعد العملية. وسيكون ذلك أكبر كلفةً."
كذلك، يضاف إلى السقف الأعلى الشعورُ بالعجز لدى العاملين في المجال الإنساني والطاقم الطبي. يوضح ذلك طبيب أطفال:
"كان لديّ مريضان لا يزالان بحاجةٍ للمعالجة، لكنّهما بلغا فعلياً سقفهما المالي، فكان علينا إبلاغهما، ‘معذرةً، لم يعد بوسعنا أن ندفع أكثر من ذلك’. اليوم، كان عليّ أيضاً أن أقول لمريض: ‘معذرةً، انتهت نقودك، لا أدري إن كان بوسعي الحصول على مالٍ لأجلك في غضون أسبوعين’."
وعلى الرغم من حقيقة أنّ المفوضية العليا هي المنظمة الرائدة المعنية بتوفير الرعاية الصحية للاجئين السوريين، فقد أجمع محاورونا على بقاء كثيرٍ من التكاليف المتعلقة بالرعاية الصحية غير مغطاة. وبما أنّ المفوضية هي المعنيّ الأساسي بالصحة، فتصبح معالجة الشكاوى المتعلقة بالأمم المتحدة بالغة الصعوبة بالنسبة إليهم.
٣.٢ مزودو الرعاية الصحية الآخرون
لدى النظر إلى نظام الرعاية الصحية في لبنان، يظهر أنّ أحد التحديات الأهم يرتبط مباشرةً بخصخصة النظام الصحي. فعلى الرغم من وجود مستشفيات ومراكز رعايةٍ صحيةٍ عامةٍ في لبنان، وعلى الرغم من حقيقة أنّ وزارة الصحة العامة تقدّم بعض التغطية في مجال الرعاية الصحية، إلا أنّ بيانات العمل الميداني تشدّد على أنّ المؤسسات الصحية العامة ليست قادرةً على الدوام على تقديم الخدمات عينها التي تقدمها المؤسسات الصحية الخاصة، حيث أنّ المعالجة التخصصية أو حتى التجهيزات غير متوافرة على الدوام.
علاوةً على ذلك، فإنّ نوعية هذه الخدمات العامة (بمعنى الرعاية والتمويل) تبدو موضع خلافٍ إلى حدٍ بعيد، ويلجأ الناس إليها بوصفها “آخر الخيارات”.
فسّرت مستشارةٌ في الشؤون الإنسانية بأنّ هذا الاعتقاد الشائع قد يكون مبنياً على النوعية الراهنة للرعاية الصحية العامة. وقد يكون التفسير الآخر أنّ هذا الاعتقاد هو “انعكاسٌ لعدم ثقة الناس بالمؤسسات العامة، لاسيما إذا أخذنا بالحسبان المظاهر التاريخية لعدم مساءلة الدولة”.
وكما أوضحت، تُعدّ الخصخصة الواسعة النطاق للخدمات الصحية والتعليمية ثمرةً لإعادة الهيكلة النيوليبرالية التي تابعها الحريري في ولايته بعد انتهاء الحرب الأهلية: “إنّ تطوير موقفٍ سلبي ومتطرف من الدولة وخدماتها – تفاقم بالفعل أثناء الحرب – قد وجّه ضربةً أخرى لثقة الناس بالمؤسسات الحكومية”.
هكذا، توسعت الخصخصة أثناء الحرب الأهلية وفي مرحلة إعادة الهيكلة في تسعينيات القرن الماضي.
نتيجةً لذلك، يعتمد معظم الناس في لبنان على الرعاية الصحية الخاصة. أي المستشفيات الخاصة، والتأمينات الخاصة، وما توفّره المنظمات غير الحكومية/الجمعيات الخيرية. لكنّ المستشفيات الخاصة والتأمينات الخاصة بالنسبة إلى اللاجئين السوريين ليست سهلة المنال في معظم الحالات. فالأزمة التي طال أمدها لم تكرههم على استنفاد مدخراتهم فحسب، بل قيّدت أيضاً دخولهم إلى سوق العمل اللبناني، ولم تدع لهم إلا وسائل قليلة لتأمين معيشتهم.
"تكمن المشكلة في ظروف اللاجئين السوريين الاجتماعية – الاقتصادية، إذ لا يقتصر الأمر على إتاحة الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية بحدّ ذاتها، بل يطال أيضاً إتاحة الوصول إلى كافة الخدمات في بلدٍ خضع كلّ ما فيه للخصخصة وتحتاج فيه إلى دخلٍ مرتفع لتنفق على كلّ شيء. لهذا السبب، نحتاج إلى المنظمات غير الحكومية لتزويد اللاجئين السوريين بالخدمات، كي تصبح الرعاية الصحية سهلة المنال، لأنّهم لا يستطيعون تحمّل تكاليف القطاع الخاص. أو بوسعك النظر إلى الأمر بطريقةٍ أخرى: من الضروري أن يكون القطاع العام أقوى من أجل التعامل مع سكّانٍ دخلهم منخفضٌ جداً."
وكما هو موضّحٌ آنفاً، تدخّل المفوضية العليا محدودٌ من حيث النطاق وكذلك من حيث مبلغ التغطية الفعلي (٧٥ بالمئة فقط). لذلك، كان معظم المحاورين الذين تحدثنا إليهم معتمدين على ما توفّره شتى المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية. كانت هذه المنظمات والجمعيات موجودةً قبل الأزمة السورية، أو ظهرت بوصفها استجابةً لتدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان.
٣.٢.١ المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية
منذ ما قبل الأزمة، المنظمات غير الحكومية هي الجهة المهيمنة في توفير الرعاية الصحية الأولية في لبنان، حيث لم تقم بتغطية المعالجة الطبية في المستشفيات الخاصة والعامة فحسب، بل أدارت أيضاً مراكز الرعاية الصحية الأولية الخاصة بها.
وكما أوضح أحد العاملين في المجال الإنساني، “تدير المنظمات غير الحكومية مراكز الرعاية الصحية الأولية لسببٍ وجيه: هنالك حاجةٌ إليها”.
لكن على الرغم من توافر عددٍ كبيرٍ من مراكز الرعاية الصحية الأولية، فتأثيرها محدود.
إذ يوجد تصورٌ عامٌ بأنّ المرضى يفضّلون اللجوء إلى مراكز الرعاية الصحية الثانوية بدلاً من الأولية.
إلا أنّه وعلى الرغم من حقيقة أنّ الرعاية والخدمات الثانوية والثالثية في لبنان – والتي يوفّرها القطاع الخاص أساساً – معروفةٌ بمستواها النوعي المرتفع،
فهذه الرعاية غير متاحةٍ للجميع، لأنّها تتطلب مساهمات لا يعجز عن توفيرها اللاجئون فحسب، بل كذلك أعدادٌ كبيرةٌ من المواطنين اللبنانيين. وفي حين يستطيع المواطنون اللبنانيون الذين ليس لديهم تأمين الاعتماد على الدعم المالي من وزارة الصحة العامة،
إلا أنّ اللاجئين السوريين لا يستطيعون ذلك. وبما أنّ الحكومة اللبنانية والمفوضية لا تضمنان معالجةً شاملةً أو طويلة الأجل، فإنّنا نجد المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدينية تهتم بمجالاتٍ مهمةٍ من الرعاية الصحية إمّا بتوفير خدمات الرعاية الصحية أو بتقديم المساعدة المالية. وعلى الرغم من أنّ هذا في الدرجة الأولى هو الحال في قطاع الرعاية الصحية الأولية، إلا أنّه تعزّز بشدّةٍ ضمن قطاعي الرعاية الصحية الثانوي والثالثي، حيث تكون المنظمات غير الحكومية في كثيرٍ من الأحيان الدعم الوحيد المتاح للاجئين السوريين، وتعمل بوصفها من المتعاونين الأساسيين مع المفوضية العليا.
نظامٌ مجزأ
تُتاح مساعدات المفوضية العليا للاجئين السوريين المسجلين وغير المسجلين، بينما تتطلب بعض المنظمات غير الحكومية أن يكون من يتلقى المساعدة من اللاجئين مسجلاً، وتستثني بالتالي السوريين غير المسجلين من خدماتها. لكنّ المنظمات غير الحكومية التي لا تتطلب تسجيلاً في المفوضية تطبّق بصورةٍ عامة معايير أقلّ صرامةً لتوزيع المساعدات، كما أنّها تركّز على أمراضٍ معينة (أمراض السرطان أو أمراض القلب أو أمراض الكلى)، حيث تيسّر مقاربةً متخصصّةً للمعالجة الطبية لهذه الأمراض. مثلما يقول مدير منظمةٍ غير حكوميةٍ تعمل في الرعاية الصحية الثالثية: “بالنسبة إلينا، ثمة معيارٌ مهمٌ هو المرض المهدد للحياة، حين لا يقدَّم علاج”.
لكنّ هذه المقاربة المتخصصة إلى حدٍ ما لشتى المنظمات غير الحكومية الناشطة في دعم وصول الشرائح المحرومة من السكان )ومن بينهم اللاجئين( لا تخلو من التحديات. أولاً، يُطلب من المنظمات غير الحكومية الالتزام بالسياسة الصحية للحكومة:
“بموجب القانون، تُعَدّ وزارة الصحة العامة المخطّط والمشرف والمنظّم والمقيّم للصحة والرعاية الصحية، والنظام الصحي. غير أنّ ندرة الموارد المالية والبشرية جعلت قيام الوزارة بدورها أمراً مستحيلاً”. كما يقول باحثٌ في الخدمات الصحية:
"إنّها استجابةٌ غير عاديةٍ على الإطلاق، لأنّ الحكومة تريد أن تكون صاحبة اليد العليا، هذا من جانب. ومن جانبٍ آخر، لديها بنية تحتية ضعيفة للغاية. عادةً، وفي حالة الاستجابة الإنسانية، ستذهب المنظمات الصحية وتنشئ مستشفياتٍ ميدانيةً وتقدّم خدماتها فحسب. لكنّك في لبنان لا تستطيع فعل ذلك. أنت ملزمٌ بالتنسيق مع الوزارة."
علاوةً على ذلك، لا يتضمّن النظام الصحي، وهو يتكون من كثيرٍ من مختلف المنظمات غير الحكومية، المجزأ والمتخم بالبيروقراطية نظام إحالةٍ واضحاً ومنهجياً، ما يجعل توزيع خدمات الرعاية الصحية أمراً غير واضحٍ ويعيق متابعة المرضى على نحوٍ سليم. وعلى الرغم من اعتبار السنوات الأولى للأزمة هي الأكثر تحدياً بسبب هذا النظام، فقد أوضح الأطباء والعاملون في المجال الإنساني أنّه كلّما طال أمد الأزمة، كلما كان الناس أكثر قدرةً على إيجاد طرقهم في الحصول على خدمات الرعاية الصحية. لكن، لا يزال هنالك كثيرٌ من الغموض:
"أعتقد أنّ النظام نفسه هو الأمر الأكثر إرباكاً. ما من أحدٍ يستطيع إدراك ما هو مغطّى وما هو غير مغطّى، أيّ منظماتٍ حكوميةٍ تغطي ماذا، هل كونه مسجلاً أو غير مسجلٍ يشكّل فارقاً. وهذا الأمر يتغيّر بثباتٍ وباستمرار. لا يعلم الناس أين يذهبون حين يصابون بالمرض."
يضيف مدير منظمةٍ غير حكوميةٍ صغيرةٍ تعمل في مجال الرعاية الصحية الثالثية أنّ “كلّ شخصٍ يقول إنّ هنالك مشكلة، بينما يرفض حلّها، ويلقي اللوم في هذه المشكلة على المانحين أو المنظمات غير الحكومية الأخرى”. هكذا، يؤدي انعدام الوضوح في نهاية المطاف إلى نظام إحالةٍ تخصيصي. وحين أنّ المرضى السوريين يصفون مشاعر تتعلق بإرسالهم ذهاباً وإياباً “من مكانٍ إلى آخر”، فإنّ العاملين في المنظمات غير الحكومية يشدّدون على أنّ الالتباس يشكّل تحدّياً بالنسبة إليهم أيضاً. ونتيجةً لذلك، فإنّ بعض المؤسسات “تسيئ استخدام” هذا الغموض لرفض المرضى. يوضح ذلك عضو في منظمةٍ غير حكوميةٍ تغطي معالجة الأطفال المرضى المعرضين للخطر:
"رأيت كثيراً من الأسر التي تطلب مساعدة المنظمات غير الحكومية، وتقول جميع المنظمات بأنّهم سيفحصون كلّ حالة، لكنّهم يرفضونها بعد ذلك. من خبرتي الخاصة، استطعت بالفعل إخبار الأسر منذ البداية بأنّه ما من معنى للمحاولة، إذ إنّ كافة المنظمات غير الحكومية سترفضهم. البارحة تعاملت مع حالةٍ صعبة، وكان عليّ إخبار شقيق المريض بأنّ منظمتنا غير الحكومية لا تستطيع مساعدتهم أكثر من ذلك. بعد ذلك، قال لي إنّه تحدث مع منظمةٍ غير حكوميةٍ دولية، وبأنّهم سيتحدثون معي لمعرفة كيف بوسعهم تقديم المساعدة. تحدثت مع المرأة وكان كلّ ما تريده هو معرفة أيّ منظمةٍ غير حكوميةٍ تستطيع إحالة الحالة إليها. الخلاصة إذاً، أنّها أعادت السؤال إلي."
ليست هذه الإحالات إلا مضيعةً للوقت، ويؤكّد بعض المحاورين على أنّ المرضى غالباً ما يغادرون في النهاية من دون تلقي أيّ مساعدة. في الحقيقة، يلتمس معظم مجيبينا مقاربةً تركّز على المريض أكثر مما تركّز على سياساتٍ قائمةٍ على التمويل. كما أنّ المحاورين يؤكدون على أهمية التثقيف الصحي والتوعية بين اللاجئين السوريين. يوضح ذلك ممثلٌ للمفوضية العليا: لا يعلم اللاجئون إلى أين يذهبون حين يمرضون. والأكثر أهميةً، لا يعلمون متى يحين وقت زيارة الطبيب – ومتى لا يحين. لذلك، تنشط المفوضية في توزيع منشوراتٍ وقصاصاتٍ إعلامية تتضمن منشآت الرعاية الصحية ]...[ التي تقدّم الخدمات والجهات المتعاقدة ]...[، وكذلك رقم الصليب الأحمر للنقل في الحالات الإسعافية، وذلك للتأكد من سعي الناس إلى المساعدة قبل فوات الأوان. لكنّك، في الوقت عينه، لا تريد منهم الاتصال بالصليب الأحمر أيضاً من أجل مشكلاتٍ صغيرة مثل التهاب الحلق .
يجادل الذين أجريت المقابلات معهم في أنّهم لا يزالون يواجهون وضعاً مالياً بائساً يجبرهم على ترتيب الأولويات بصورةٍ مختلفة، على الرغم من أنّ اللاجئين قد يكونوا مدركين للتوقيت المناسب للسعي إلى المساعدة الطبية.
"من الضروري معرفة ما هي ظروف عيشهم، ما هي أولوياتهم. قد لا يحضر الناس في المواعيد لأنّ هنالك أموراً أخرى تشغلهم: أسرتهم عالقة في سوريا، أحد معارفهم توفي للتو، لا يجدون من يهتم بأطفالهم أثناء الموعد. بوصفك طبيباً، عليك معرفة صراعاتهم اليومية ومحاولة التغلب عليها ."
ندرة التمويل
التحدي الثاني الذي يواجه المنظمات غير الحكومية هو اعتمادها على إيرادات المانحين. غالباً ما يحدّد المانحون صراحةً الغايات أو المجموعات المستهدفة التي ستستفيد من هباتهم؛ الهبات “مخصّصة”، ويختلف التمويل حسب المنطقة: “لا تغطي بعض الأموال إلا أمراضاً معينة إلى حين تبديل الأموال، ولا تعود هذه الأمراض مغطاة في بعض المناطق”.
فض اً عن ذلك، لا يزال التمويل في معظم الحالات يركّز على الحالات الإسعافية ،
ويشدّد كثيرٌ من العاملين في المنظمات غير الحكومية الذين قابلناهم على أنّه ينبغي تطوير مساعدات الطوارئ إلى مساعداتٍ للتنمية: “مضى على وجود السوريين في لبنان خمس سنوات حتى الآن، لكن لا يُنظر إليهم بوصفهم مقيمين ينبغي أن يتلقوا المساعدات الضرورية”.
بل إنّ هذه المدة الطويلة – إلى جانب حقيقة أنّ الرعاية الصحية في لبنان أعلى كلفةً منها البلدان الأخرى بسبب نظامه المخصخص – أدّت إلى إرهاق المانحين. ونتيجةً لذلك، “يتناقص التمويل، في حين يتواصل تزايد الاحتياجات” .
يضاف إلى ذلك حقيقة أنّ للمشكلات الصحية طابعاً متساوقاً. يوضح ذلك عاملٌ في منظمةٍ غير حكومية:
"لا تشبه الصحة مشروع حمايةٍ يمكن إيقافه إلى حينٍ ثمّ تستأنفه. لا تستطيع فجأةً أن توقف الرعاية الصحية وتقول: ‘عذراً، لن تستطيع العودة في الشهر القادم إن بقيت مريضاً’، لكنّ ذلك هو ما يحدث لمنظمتنا في أغلب الأحيان؛ هنالك فجوة في تمويلنا مدتها شهران."
ع اوةً على ذلك، تُنفق الموارد بطريقةٍ غير فعّالة، طالما أنّ المنظمات غير الحكومية المحلية والوطنية وكذلك الوزارة والمستشفيات لا تنسّق عمليات توفير الرعاية الصحية بطريقةٍ مُثلى وشاملة. فعلى سبيل المثال، أُنشئت مراكز وبرامج جديدة، على الرغم من أنّها لم تُقدّم أيّ فائدةٍ إضافيةٍ للبرامج والمراكز القائمة . أبلغنا المحاورون أيضاً بأنّ القرارات المتخذة على الصعيد السياسي لا تتطابق دوماً مع الاحتياجات الواقعية.
"قرّرت وزارة الصحة إنشاء مختبراتٍ معينة في المستشفيات العامة، فطلبوا معدّات باهظةً جداً دفعت المفوضية العليا ثمنها. وحين بدأ العمل، أدرك المنفذون أنّ المستشفيات لا تدرك الحاجة إلى مثل هذه المختبرات أو أنّها لا تعترف بتلك الحاجة. بل لعلها لا تملك الحق في إنشائها. أُنفق المال إذاً على أشياء تمّ شراؤها، لكن لم تُركّب أو لم تُستخدم. تتعفن المعدات في مكانٍ ما، ويتراكم الغبار عليها. وفي العام التالي، ستتحول مثل هذه المختبرات على الأرجح إلى شيءٍ آخر طالما أنّها لا تستجيب إلى حاجةٍ ما."
لهذا السبب، من الضروري أن يكون التثقيف الصحي أكثر تفصيلاً “قبل إدخال بنى تحتية مجدّدة وتقدمٍ تقني”. ومن أجل الإبقاء على دخلٍ كافٍ لاستمرار الوجود، غالباً ما يُكرَه مزودو الرعاية الصحية على اتخاذ قراراتٍ قائمةٍ على مصالح ذات طابعٍ تجاري.
يؤكد باحثون يعملون في مجال الرعاية الصحية أنّه على الرغم من أنّ بعض المنظمات تحاول ادخار المال بجعل المتطوعين ينظمونها بالكامل،
فإنّ منظماتٍ أخرى تتفق مبالغ معتبرة من المال على الموارد البشرية.
كما أنّهم شدّدوا على ما سبّبه ذلك من عواقب سلبية على اللاجئين السوريين:
"ما شاهدناه مع المساعدات الأساسية أنّه كلما كان المال المتاح أقل، كلما طُبّقت معايير تمويلٍ أشدّ صرامة. إذاً، إن حصلت الوكالات على تمويل أقل، سيكون عليها إمّا تغطية تكاليف الأشخاص الذين تمّ اختيارهم بمنهجيةٍ صارمة، حيث يكون ذلك إشكالياً في أغلب الأحيان، أو تخفيض النسبة المئوية العامة للإعانات فيدفع الناس من جيوبهم. في كلتا الحالتين، سيكون وصول السوريين إلى الرعاية الصحية أمراً أكثر صعوبة."
الطوائف والسياسات بوصفها تحدياتٍ إضافية
إضافةً إلى وضع المرء المالي، قد تشكّل الطائفة والتوجه السياسي أيضاً عائقاً أمام الوصول إلى الرعاية الصحية. فمنذ الحرب الأهلية، وفّرت مستوصفاتٌ ومراكز صحية ومستشفياتٌ كثيرة تملكها جماعات دينية، وتواصل ذلك في حالاتٍ كثيرة، رعايةً صحيةً لأعضاء جماعاتها، وفي الوقت عينه تضع أولوية لهؤلاء الأعضاء حين يتعلق الأمر بالمعالجة. وعلى الرغم من النظام الداخلي الرسمي لهؤلاء المزودين والمتعلق بمهمتهم، فقد صُمّمت بعض الخدمات الصحية لمجموعاتٍ إثنيةٍ، أو طوائف، بعينها وقُدّمت لها. ومع أنّه ما من منظمةٍ تُقدّم الخدمات صراحةً على أسسٍ إثنيةٍ أو طائفية، إلا أنّها جميعاً تعمل في مناطق جغرافية معينة غالباً ما تكون موسومةً سكانياً باعتبارها “إسلاميةً” أو “مسيحية” . وللأسف، قد يُرسل بعض المرضى إلى مركز رعايةٍ آخر بسبب انتمائهم الطائفي، ما يعني أنّه قد يكون لمثل هذه التفرقة الطائفية عواقب مميتة. نتيجةً لذلك، ليست كافة الخدمات الصحية سهلة المنال بالنسبة إلى اللاجئين السوريين أو السكان المستضعفين الآخرين.
٣.٢.٢ المستشفيات الخاصة والعامة
تُعدّ المستشفيات أحد أهم مزودي الخدمات الصحية في لبنان. وبما أنّ مزودي الرعاية الصحية الخاصة الرئيسيون لا يغطّون أتعاب الأطباء في العيادات الخاصة، فإنّ معظم الناس يعتمدون على الرعاية التي يقدّمها المستشفى، ما يجعل المستشفيات وجهة الاتصال الأولى لمحاورينا حين تعترضهم مشكلاتٌ صحية. يوجد لبنان ما مجموعه 130 مستشفى تنتشر في أرجاء المناطق اللبنانية، يضمّ القطاع الخاص 80 بالمئة منها. لكن في أغلب الأحيان، لا يمتلك اللاجئون السوريون المبالغ التي تتقاضاها المستشفيات. فبعد خمس سنواتٍ من الأزمة، استنفد اللاجئون السوريون مدخراتهم،
في حين أن فرص دخولهم إلى سوق العمل معدومة أو شبه معدومة.
معالجات باهظة الكلفة وفقدان سبل العيش
يفرض الوضع المالي للاجئين السوريين على المستشفيات مواجهة تحدياتٍ متزايدة من حيث التغطية المالية لمعالجة المرضى السوريين، ما يفضي أحياناً إلى استراتيجيات تعاملٍ ضارة بغرض ضمان الدفع. في المقام الأول، ترفض المستشفيات غير المتعاقدة مع المفوضية العليا استقبال اللاجئين السوريين. يؤكد ممثلٌ للصليب الأحمر أنّ ذلك يمنع سيارات الإسعاف من نقل المرضى السوريين إلى المنشآت الصحية. يضيف عاملٌ في منظمةٍ غير حكومية أنّ استبعاد اللاجئين السوريين من تلقي عناية المستشفى يؤثر في العاملين في المجالين الإنساني والطبي أيضاً: ذات مرة، اتصلت بي امرأة بعد منتصف الليل. كانت في حالة مخاض أمام المستشفى، لكنّهم لم يسمحوا لها بالدخول. فأخذت سيارة أجرة وانطلقت إلى المستشفى، لكنّ المرأة لم تكن لسوء الحظ برفقة زوجها أو أسرتها. ولدت طفلها في الشارع فسقط على الأرض ومات. لقد بقيت مكتئباً لفترةٍ طويلة بعد تلك الليلة.
ثانياً، تواجه المستشفيات المتعاقدة مع المفوضية العليا تحدياتٍ في إيجاد دعمٍ مالي من أجل الع اج الطبي غير المغطّى. يذكر المحاورون أنّ بعض المستشفيات تنتظر ضمانةً من المفوضية، أو من منظماتٍ أخرى، بأنها ستدفع حصتها قبل قبول المرضى. ولكن حتى عندما تُقدّم مثل هذه الضمانة، يطلب كثيرٌ من المستشفيات العامة تأميناً خاصاً أو إيداعاً قبل تقديم العناية الطبية للمريض.
كذلك يؤكّد لاجئون سوريون وعاملون في المجال الإنساني بأنّ معظم المستشفيات تطلب منهم دفع حصة مريضهم البالغة 25 بالمئة قبل مباشرة المعالجة. وفقاً لأبٍ سوري:
"عمر ابنتي تسع سنوات. عدنا إلى البيت ذات يومٍ فوجدناها معلقةً على الحائط ووشاحٌ يلتفّ حول عنقها. لم نعرف إن كانت تلعب أم تحاول قتل نفسها. لعلّ شخصاً آخر فعل ذلك بها. أخذناها إلى غرفة الطوارئ، لكنّ مكتب المفوضية العليا جعلنا ننتظر لساعاتٍ قبل أن يوافقوا على إدخالها. بقيت في وحدة العناية المشدّدة لخمسة أيام. يهدّد المستشفى حالياً بطردها إذا لم ندفع. تغطي المفوضية 75 بالمئة، لذا علينا دفع ال– ٢٥ بالمئة المتبقية والتي تعادل فعلياً خمسة ملايين ليرة لبنانية. من أين لنا أن ندفع هذا المبلغ؟ لا أستطيع حتى دفع 10 بالمئة ."
الاكتظاظ
غالباً ما ترفض المستشفيات المرضى بسبب الاكتظاظ وعدم وجود مكان. يشدّد العاملون في المجال الإنساني على أنّ مثل هذا الرفض ليس غير مألوف، على الرغم من عدم وجود معطياتٍ توثّق العواقب. ينطبق هذا الوضع أيضاً على جميع السكان المستضعفين في لبنان – المواطنين اللبنانيين من الطبقة الدنيا، واللاجئين السوريين، واللاجئين الآخرين - على الرغم من أنّ المستشفيات مُلزمةٌ قانونياً بتقديم المساعدة عندما يتعلق الأمر بمسائل مهددة للحياة. لكنّ اللاجئين السوريين أُكرهوا على تسليم بطاقات هويتهم أو جوازات سفرهم لضمان الدفع.
بل ذُكر أنّ بعض المستشفيات ترفض إخراج المرضى، أو حتى جثث المتوفين، حتى يتم الدفع:
"عانت إحدى الأمهات من مشكلاتٍ أثناء الولادة، فوضعوا المولود في حاضنة. لكنّ المفوضية رفضت دفع تكاليف الحاضنة، ولم يكن بوسع الوالدين دفعها. فأخرجوا الأم واحتفظوا بالمولود في المستشفى. كما أنّهم أبلغوا الأم بأنّه لن يُسمح لها بزيارة المولود إلى أن تُسدّد الفاتورة. ذهبتُ إلى المستشفى وأخذتُ المولود خفيةً؛ كان اسمه مكتوباً على بطاقةٍ تُحيط بمعصمه. لكنّ هذا النوع من الأمور يحدث أحياناً. بل إنّك تسمع قصصاً عن أشخاصٍ يموتون. فيحتفظون بجثثهم، إلى أن يدفع شخصٌ ما. وفوق هذا كلّه، فإنّهم يحاسبون على المدة التي احتفظوا فيها بالجثة في المشرحة ."
تصاعد التوترات بين المجتمع اللبناني واللاجئين السوريين
يُظهِر العمل الميداني أنّ على المستشفيات التعامل أيضاً مع تصاعد التفرقة المتبادلة والتوترات بين اللبنانيين والسوريين. يمكن ربط أحد العوامل الضمنية لهذه التوترات المتصاعدة بحقيقة أنّ 85 بالمئة من اللاجئين المسجلين يعيشون في مناطق يعيش فيها 67 بالمئة من السكان المضيفين تحت خط الفقر. يشابه الوضع المالي للبنانيين في هذه المناطق الوضع المالي للاجئين السوريين الذين يعيش 70 بالمئة منهم تحت خط الفقر.
غير أنّ المجتمع الدولي ركّز، لاسيما في بداية الأزمة، على اللاجئين السوريين وأهمل المجتمعات اللبنانية المحلية المستضعفة. هكذا دُعمت الخدمات الصحية المقدمة للسوريين، وتطلّبت مساهماتٍ أعلى من اللبنانيين الذين يستخدمون الخدمات عينها.
فضلاً عن ذلك، وُصفت الخدمات الصحية بأنّها “تعمل فوق طاقتها وتفتقر إلى التمويل”، حتى قبل الأزمة. أوضح الباحثون العاملون في مجال الرعاية الصحية أنّ تزايد عدد المرضى السوريين أفضى إلى طوابير انتظارٍ أطول بالنسبة إلى اللبنانيين. إلى جانب ذلك، ينتشر خوف انتقال العدوى، وبخاصةٍ لأنّ السوريين المقيمين في الخيام يفتقرون إلى خدمات حفظ الصحة الأساسية،
وقد أدّى ذلك إلى تصاعد التوترات بين اللبنانيين والسوريين،
ودفع المرضى اللبنانيين إلى الانسحاب من بعض الخدمات الصحية.
وفوق هذا كلّه، ظهرت أمثلةٌ مقلقةٌ عن توفير الدواء عبر مختلف القنوات، ولاسيما في بداية الأزمة:
"في بداية الأزمة، وفّرت وزارة الصحة الأدوية للمصابين بأمراضٍ مزمنة، كما يُفترض بها أن تفعل، لكن حدثت تأخيرات بسبب تعقيداتٍ إدارية. في غضون ذلك، وفّرت المفوضية العليا/اليونيسيف الأدوية للسوريين في الوقت المحدّد. غالباً ما كانت الأدوية متوافرةً إذاً، لكنّها لم تكن دائماً سهلة المنال بالنسبة إلى اللبنانيين وكان ذلك بطبيعة الحال مصدراً للتوتر."
ونتيجةً لذلك، تستخدم المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية استراتيجيات تعاملٍ متنوعة، مثل تطبيق نظام الحصص على الأسرّة المتاحة للبنانيين أو السوريين، أو المتابعة السريعة للمرضى اللبنانيين، أو وضع المرضى اللبنانيين والسوريين في غرف انتظارٍ منفصلة، أو تحديد مواعيد لهم في فتراتٍ مختلفة من اليوم أو حتى في أيامٍ مختلفةٍ تماماً.
أوضح باحثٌ في مجال الرعاية الصحية أنّ استراتيجيات التعامل هذه كانت “مقلقةً لأنّها تعزّز الصور النمطية والأحكام المسبقة. تبعاً لذلك، وعلى الرغم من أنّ اللاجئين السوريين لم يدركوا على الدوام إجراءات الفصل ومن أنّ نوعية الخدمات كانت مُرضيةً لهم”،
إلا أنّ مصادر التوتر بالنسبة إليهم نشأت عن معاناتهم من طوابير الانتظار الأطول من طوابير انتظار اللبنانيين وتلقّيهم اهتماماً أقل من قبل طاقم الرعاية الصحية.
أوضح ذلك باحثٌ في مجال التنازع ضمن المجالات الصحية:
"بحلول شهر حزيران/يونيو 2015 ، بات مزودو الرعاية الصحية أكثر اعتياداً على الطريقة الجديدة في العمل، لذلك بدأت الموجة الأولى من الاستياء والقلق والتوتر بالتراجع. اعتاد العاملون في مجال الرعاية الصحية على مقتضياتٍ جديدةٍ تتعلق بحاجتهم إلى تدوين الملاحظات الخاصة بالمرضى السوريين بطريقةٍ مختلفة عن المرضى اللبنانيين. باتوا أكثر اعتياداً على وجود مرضى مختلفين في غرفة الانتظار، وأكثر ارتياحاً في التعامل مع النزاعات اليومية التي قد تنشب. ونتيجةً لذلك، أصبح المرضى أنفسهم أكثر اعتياداً. أثناء السنوات الأولى، كانت التوترات تندلع أساساً نتيجةً لسوء فهم النظام."
وفي الآن عينه، لم يُسلّم جميع العاملين في المنظمات غير الحكومية بهذا الخطاب، وذلك لوجود كثيرٍ من اللبنانيين والسوريين الذين “يحاولون جعل الوضع أفضل” على الرغم من التباينات السياسية أو الدينية. يتمثّل أحد الجوانب الإيجابية للأزمة في أنّ المساعدات الدولية أدّت إلى توزيعٍ أفضل للخدمات الصحية، وهكذا أيضاً تحسّنت فرص وصول اللبنانيين إليها.
علاوةً على ذلك، أدّت التوترات بين اللاجئين والسكان المضيفين إلى إدراك ضرورة معالجة احتياجات السكان المحليين أيضاً، ما شجّع على تطوير المساعدات المخصصّة إلى مساعدات تنميةٍ بعيدة الأجل.
٤. آليات التعامل المتباينة بين اللاجئين السوريين
على الرغم من أنّ الظروف الطبية تسمح نظرياً للاجئين السوريين بالحصول على إقامةٍ قانونيةٍ في لبنان، فقد بيّن معظم محاورينا أنّهم لم يكونوا قادرين على فعل ذلك. وبناءً عليه، لا يزال وضع معظم السوريين المحتاجين إلى الرعاية الطبية غير قانوني.
الإجراءات غير القانونية وإمكانية الوصول
إنّ الخوف من عبور نقاط التفتيش بسبب الوضع غير القانوني لا يترك للاجئين السوريين إلا خيار اللجوء إلى طرقٍ غير مرغوبٍ فيها أو ضارة للتنقل في هذه الظروف )“آليات التعامل السلبية”( واستمرار الوصول إلى الرعاية الصحية، وبخاصةٍ أثناء الليل. أضف إلى ذلك حقيقة أنّ هنالك توزيعاً غير متساوٍ للمستشفيات الخاصة والعامة في مختلف المناطق، يجعل إمكانية الوصول أكثر تعقيداً.
من أجل التغلب على هذه التحديات، وصف أبٌ سوري اضطراره الدائم إلى حمل الملف الطبي الخاص بابنه المريض معه عندما يغادر المنزل. فإذا أُوقف الأب عند نقطة تفتيش، أظهر الملف للضباط التماساً للرحمة. أخبرنا ممثلٌ للمفوضية العليا أنّه يمكن تجنب نقاط التفتيش إذا كان المريض يركب سيارة الإسعاف الخاصة بالصليب الأحمر. لكنّ متحدثاً باسم الصليب الأحمر أبلغنا بأنّ سيارات الإسعاف الخاصة بالصليب الأحمر مُلزمةٌ تقنياً بنقل السوريين إلى أقرب مستشفى، وقد يكون ذلك المستشفى متعاقداً مع المفوضية أو غير متعاقدٍ معها، فيقبل )أو يرفض( قبولهم.
وفي حين يبدو أنّ الإجراءات غير القانونية لا تؤثر في قبول المرضى، لكنّه لا يزال يؤثر في حرية حركتهم داخل البلد.
وعلى هذا النحو، يؤثر التجول بطريقةٍ غير قانونية في الطريقة التي يمكن أن يصل فيها المرضى إلى المؤسسات الطبية، وبخاصةٍ في الحالات الإسعافية.
المساعدة الطبية عبر الحدود
تتضمّن استراتيجيات التعامل التي وصفها لنا مُجيبونا عبور الحدود بحثاً عن المساعدة الطبية. ففي السنوات الأولى التي أعقبت اندلاع الأزمة السورية، أراد السوريون الوصول إلى الرعاية الصحية في كلٍ من سوريا ولبنان. كان معظم السوريين يقيمون في سوريا، لاسيما أولئك القاطنون قرب الحدود السورية – اللبنانية، ودخلوا إلى لبنان بين حينٍ وآخر للوصول إلى الخدمات الصحية والحصول على المنتجات الطبية. في غضون ذلك، أراد السوريون المقيمون فعلياً في لبنان العودة إلى سوريا لتلقي العلاج. لكن، وبسبب ما أطلقت عليه تسمية “سياسات تشرين الأول/أكتوبر” التي اعتمدتها الحكومة اللبنانية في شهر تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٤ وإغلاق الحدود بحكم الأمر الواقع، تزايدت صعوبات مغادرة لبنان أو الدخول إليه أو العودة مجدّداً إليه، كما أظهرنا ذلك في تقريرٍ آخر:
"لم تغطِّ الاستجابة (الدولية) للأزمة السورية إلا الحالات الإسعافية. لذلك أراد المصابون بأمراضٍ مزمنة، حتى آخر لحظةٍ عندما كانت الحدود مفتوحة، عبور الحدود للوصول إلى أدويتهم أو إلى خدمات الرعاية الصحية في سوريا. منذ 5 كانون الثاني/يناير، أُغلقت الحدود بشكلٍ أساسي. لكن ومنذ شهر تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٤ ، بات من الصعوبة بمكانٍ بالنسبة إلى السوريين أن يتنقلوا جيئةً وذهاباً بين سوريا ولبنان، فلم يعدِ الناس قادرين على الوصول إلى الخدمات المتكررة للأمراض المزمنة."
دفع إغ اق الحدود، إضافةً إلى التكاليف الباهظة والإجراءات البيروقراطية المعقدة لنظام الرعاية الصحية في لبنان، كثيراً من المرضى السوريين للعودة إلى سوريا من أجل المعالجة. وعلى الرغم من أنّ اللاجئين السوريين يحاولون تجنب العودة إلى سوريا لأسبابٍ أمنية، غير أنّ العاملين في المنظمات غير الحكومية غالباً ما ينصحونهم بالعودة. وكما أوضح عدة لاجئين سوريين، “الذهاب إلى سوريا موتٌ محتّم” .
"طلب مني طبيبٌ في البقاع الذهاب إلى سوريا للمعالجة، لكنّ الأمر بالغ الصعوبة. أنا من حمص؛ منزلنا مدمّر. المدينة بأكملها مدمّرة. لا تستطيع الوصول إلى المستشفيات، حتى لو كانت لا تزال مفتوحةً وتعمل...."
ويؤكد عاملٌ في منظمةٍ غير حكومية:
"غالباً ما أسمع من عاملين آخرين في الميدان أنّ الناس يعودون أحياناً إلى سوريا من أجل مداخلاتٍ طبيةٍ معينة لأنّها مجانيةٌ في سوريا. إذاً، سيخاطرون بحياتهم للوصول إلى المعالجة بدلاً من البقاء في لبنان حيث لا يستطيعون تحمّل تكاليفها. وبعد ذلك بالطبع، سيتدهور الوضع الصحي لمن لا يستطيعون العودة."
تمهيد الدرب للإجراءات غير الرسمية
هكذا، يُستثنى كثيرٌ من السوريين ممن هم بحاجةٍ إلى العناية الطبية من خدمات الرعاية الصحية، وهو أمرٌ يضاف إلى مشاعر التوتر والقلق، بل إنّه يفضي أحياناً إلى عدوانية تجاه المعنيين بالصحة: “إنّهم قلقون من أنّ عليهم الانتظار لوقتٍ طويل قبل حصولهم على موافقةٍ للمساعدة المالية، أو أنّ الخدمات العامة ليست جيدةً بما يكفي. كما أنّهم يخشون دوماً من إساءة معاملتهم، أو من اضطرارهم للدفع بعد ذلك كلّه”.
كما أنّ حرمان السوريين من المساعدة الطبية يدفعهم إلى الأمل في إعادة التوطين،
أو المخاطرة بمغادرة لبنان. ونتيجةً لذلك، تترك هذه الخيارات كثيراً من السوريين من دون أي آفاق مستقبلية. في هذا السياق، ظهرت مرافق صحية غير رسمية لمن بقيوا. ومنذ بداية النزاع، تأسست شبكاتٌ مختلفةٌ من الناشطين السوريين – من المعارضين السياسيين للنظام السوري – في عاليه ووادي البقاع، من أجل من يحتاجون المساعدة ممن دخلوا إلى لبنان بطريقةٍ شرعيةٍ أو غير شرعية.
وللمفارقة، تصبح الإجراءات غير القانونية إذاً الطريقة الوحيدة الممكنة – والمنطقية – للوصول إلى الخدمات الصحية:
"جهّزنا شقةً في وادي البقاع مطلع العام ٢٠١٢ بحيث يمكن استخدامها كمركز استشفاء. جهّزناها بكافة الإمدادات الطبية الضرورية. كان لدينا أسرّة مستشفى وصيدلية ووظّفنا ممرضة. ثمّ جاء سوريون يحتاجون إلى مختلف أنواع الرعاية الطبية في لبنان للتعرف إلينا. شرعوا بالاتصال بي وطلب المساعدة، عندما شارفت المفوضية العليا على التخلي عن تقديم الخدمات. كنّا شبكةً غير رسميةٍ تتكون من بضعة أشخاصٍ فحسب؛ نحصل على تمويلنا من خلال تبرعاتٍ فرديةٍ ومن بعض المنظمات غير الحكومية. لكنّنا، وعلى الرغم من ذلك، ساعدنا كثيراً من الأشخاص. كان لدينا عددٌ كبيرٌ من الحالات المختلفة والأمراض المختلفة، كالاضطرابات القلبية والأمراض المزمنة والأشخاص المصابين... كلّ هذه الرعاية الصحية الطارئة لا تغطيها المفوضية العليا. كنّا قادرين على إنقاذ كثيرٍ من الأرواح. لكنّنا فقدنا كثيراً منها أيضاً. الاحتياجات هائلة. لقد خاطرنا وقمنا بكلّ ذلك العمل لأنّه ما من أحدٍ غيرنا يقوم به."
أخبرنا ناشطٌ سوري بأنّ الحكومة اللبنانية اتخذت إجراءاتٍ صارمةً بحق كلّ المرافق غير الرسمية تقريباً. ونتيجةً لذلك، ينتهي الأمر بعددٍ كبيرٍ من اللاجئين السوريين إلى التوقف عن السعي إلى الحصول على الرعاية حين يحتاجون إليها .
5. خاتمة
"أعتقد أنّ الناس إذا رأوا هؤلاء المرضى، سيرون أنّهم بشر، أنّهم ليسوا حالاتٍ أو مجرد أرقام. أعتقد أنّ ذلك سيشكّل فارقاً كبيراً. إذا سمعت أنّ ‘شخصاً ما مريضٌ ويحتاج إلى المال’، فلن تتأثر. لكنّك حين تراه، حين تستمع إليه، حين تستمع إلى طموحاته، حين تستمع إلى أمنياته، سيكون الأمر مختلفاً تماماً. آنذاك تفكّر: لعلّ ما نفعله غير كافٍ."
يتبنى هذا التقرير منظوراً أنثروبولوجياً ومن وجهة نظر حقوق الإنسان لتحليل مدى قدرة اللاجئين السوريين في لبنان على الوصول إلى الرعاية الصحية. المفوضية العليا للاجئين هي المؤسسة الرائدة المعنية بوصول اللاجئين السوريين إلى العناية الصحية. وعلى الرغم من أنّ مساعداتها ودعمها ذات شأن، إلا أنّ لاجئين سوريين كُثراً وجدوا أنفسهم وحيدين أمام تكاليف متصاعدة يعجزون عن تحمّل أعبائها. ونتيجةً لهذا الوضع، انضمت منظماتٌ غير حكوميةٍ وجمعياتٌ خيريةٌ ومنظماتٌ دينية إلى جهود توفير الخدمات الصحية والدعم المالي. لكنّ الاعتماد على مثل هذا النظام المجزأ والبيروقراطي إلى أبعد الحدود والذي يفتقر إلى الوضوح وإلى نظام إحالةٍ منهجي، يؤدي إلى مقاربةٍ تخصيصيةٍ وغير منتظمةٍ وغير آمنةٍ في مجال الرعاية الصحية. قبل كلّ شيء، يبدو أنّ الرعاية الصحية للاجئين السوريين في لبنان تركّزت على مجرد تخفيف أعراض المشكلات الصحية ذات الصلة، بدلاً من المعالجة الفعلية للسبب الذي يكمن خلفها. وبناءً على هذا، يُعدّ النظام علاجياً أكثر مما هو وقائي. فض اً عن ذلك، فإنّ اعتماد المنظمات المذكورة آنفاً إلى حدٍ كبيرٍ على التمويل لا يمنع التدفق الثابت للإيرادات والخدمات فحسب، بل يُكره هذه المنظمات أيضاً على التركيز على مجموعاتٍ أو أمراضٍ مستهدفةٍ بعينها. ونتيجةً لهذا، لا يتوفّر لكثيرٍ من اللاجئين السوريين الوصول إلى الرعاية الصحية. وهذا الأمر يخلق صعوباتٍ للمنظمات غير الحكومية والمستشفيات، ولاسيما أنّ المرضى من اللاجئين السوريين الذين استنفد معظمهم مدخراته غارقون بالدين،
ولديهم فرصٌ ضئيلة بالدخول إلى سوق العمل.
نظراً إلى التدفق الهائل للاجئين السوريين منذ اندلاع الأزمة السورية، أُكرهت الحكومة اللبنانية على الاستجابة لعددٍ متزايدٍ من الاحتياجات، كان أحدها الوصول إلى الرعاية الصحية. وعلى الرغم من أنّ البلد استطاع إنجاز مجموعةٍ من الخدمات الصحية بمساعدة المانحين الدوليين، إلا أنّه كذلك لم يعانِ من عواقب أزمة اللاجئين السوريين فحسب، بل كذلك من عواقب أزمة اللاجئين الفلسطينيين الطويلة الأمد. ولذلك، فإنّ عدداً متزايداً بصورةٍ ملحوظةٍ من السكان “اكتشف ببساطةٍ القصور البنيوي القائم في نظام الرعاية الصحية المحلي الذي يعتمد إصلاحه في المقابل على اتخاذ قرارٍ سياسي”.
يشير العمل الميداني إلى عدم كفاية المساعدات بوصفها أحد التحديات الأساسية.غير أنّ التحديات الأهم يبدو أنّها ملازمة لنقص التنسيق الفعال والاستراتيجية المشتركة بين الفاعلين الصحيين، سواءٌ أكانت الدولة أم المفوضية العليا للاجئين أم المستشفيات أم المنظمات غير الحكومية، إضافةً إلى المانحين. يصف جميع الأطراف التمويل بوصفه التحدي الأكثر أهمية. علماً بأنّ تمويل قطاع الرعاية الصحية قاصر، في حين أنّ معظم العلاجات الطبية تقتضي كلفاً مرتفعة.
نستطيع بالتالي الاستنتاج بأنّ أزمة اللاجئين السوريين ضخّمت إلى حدٍ بعيد وأعادت إنتاج تحدياتٍ وأوجه قصورٍ موجودةٍ بالفعل في نظام رعايةٍ صحيةٍ غير فعّالٍ ومجزأ ومخصخصٍ إلى أبعد الحدود، عاجزٍ عن تقديم مسارٍ مستدامٍ لتوفير الرعاية الصحية للمرضى، سواءٌ أكانوا مواطنين أم لاجئين. ينجم عن هذا أنّ كثيراً من اللاجئين السوريين ليسوا قادرين على التمتع بحقهم الإنساني الأساسي في الرعاية الصحية اللائقة، ويعتمدون بالتالي على منشآتٍ غير رسميةٍ وغير قانونية توفّر الرعاية الصحية، وأحياناً لا يستطيعون الوصول إلى المساعدة الطبية على الإطلاق. وهذا يثبت في الواقع وجود مشكلةٍ أعمق من أيٍّ من التحديات المالية أو العملية في توفير هذه الرعاية.